الصراع الطبقي هو السر

ما يزال فلاسفة الغرب يعجزون عن إقامة الجدل الفلسفي مع مفهوم الصراع الطبقي على أسس علمية، رغم أنه أهم الأهداف التي سخرت وزارة الخارجية الأمريكية وبعض مراكز الدراسات والأبحاث أدواتها من هؤلاء الفلاسفة لنفيه ومحوه من ذاكرة الشعوب، وفي ببغائية واضحة حاول بعض المشتغلين في الثقافة عندنا الإسهام في عملية النفي، فقد جاء في كتاب أحد هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر (أدى انهيار المنظومة الاشتراكية وزوال مفعول مقولات الفكر الماركسي اللينيني إلى توقف التصعيد في المواجهات الاجتماعية….، وكذلك توقف تصعيد الصراع الطبقي أو موضوعه ونتائج ممارسته عندنا.. إذ إن الصراع الطبقي طالما عوق صراعنا مع العدو الرئيسي وصرفه إلى صراعات ثنائية وثانوية، قطرية وقومية وأدى إلى حالات من التشرذم والتمزق والعنف).

إن مقارنة هذا الخطاب المعولم أمريكياً الذي ظهر منتصف التسعينيات كأول إشارات انعطاف الثقافة السورية، مع الخطاب الذي نشأ على أساسه تحالف الشيوعيين والبعثيين وما ورد في المنطلقات النظرية لحزب البعث مثل ضرورة (التحرر من أية علاقات عبودية، من أي اضطهاد طبقي) والتأكيد على زوال العلاقات الطبقية و(عبودية الانسان في أنظمة الاستغلال هي أخطر شكل من أشكال ضياع الحرية الإنسانية) (بعض المنطلقات النظرية ص 39) تؤكد المقارنة على قطع للفكر عن جذوره الاجتماعية المتأصلة ونشوة فوكويامية ملقنة بنهاية التاريخ وعودة نحو التراث الديني النافي أساساً لوجود الصراع الطبقي، لكن ليست المشكلة في هذا التحول والقطع ونقض المنطلقات فقط، إنما في طرحه الفصل بين القضيتين الاجتماعية (بصفتها صراعاً طبقياً)، والقومية (بصفتها الوطنية)، وهو فصل يفبركه الخطاب الجديد، وذلك لأن تلازم مساري الصراع الطبقي والوطني كان أهم مقتضيات ذلك التحالف، إضافة إلى أن الرؤية الفكرية بمجملها رؤية مؤمركة في نمط قلبها للحقائق وتشويهها، لأنها تحمّل مفهوم الصراع الطبقي والممارسة السياسية القائمة عليه تبعات افتراضية ليست من نتائجه واقعياً ولا هو سببها، فضلاً عن فتح الخطاب حقل صراع إيديولوجي على أساس حضاري اقتداء  بثقافة المركز الغربي وكصدى له وركن من أركان التشويه.

مقولات الفكر الماركسي اللينيني بما فيها الصراع الطبقي هي الطريق إلى العدالة الاجتماعية لوضع حد للمواجهات الاجتماعية القائمة تاريخياً في جوهر الطبقات المتناحرة داخل التركيبة الرأسمالية والتابعة لها والجانحة نحو التبعية، وتعتبر الأزمة السورية بشقها الداخلي أعنف مواجهة اجتماعية في التاريخ المعاصر كثفت على جغرافيا صغيرة انفجار تراكمات العولمة الأمريكية  وحدثت في ظل التغييب المتعمد لتلك المقولات وكنتيجة حتمية للنهج الاقتصادي اللبرالي الوحشي والقصور في بناء الشخصية الوطنية المدنية والتقدمية وانعطاف الثقافة السورية، لذلك فان تلبيس مفهوم الصراع الطبقي جرائم لم يرتكبها هو شكل من أشكال القصور المعرفي والعدوانية الدعائية في خدمة أهداف الأمركة، ويؤكد ذلك المدى الاستنباطي الوهمي الأوسع الذي ذهب إليه الكاتب، فمن وجهة نظره إن الصراع الطبقي عوق صراعنا مع العدو الرئيسي وصرفه إلى صراعات قطرية وقومية وأدى إلى حالات من التشرذم والتمزق والعنف.

وهنا يصل العجز إلى حد السذاجة، فهو ينسب نتائج السياسات الخارجية الأمريكية الخاصة بالمنطقة وسياسات التطبيع التي تنتهجها دول الخليج وما ترتب على معاهدة كامب ديفيد من تشرذم وتمزق وعنف وإعاقة للصراع مع العدو الرئيسي إلى مفهوم الصراع الطبقي، ووجه الخطورة رغم سذاجة الطرح هو أنه لقي من يردده كنتيجة لشيوع وعي ملقن ومستهلك غير جدلي وغير تحليلي أحدثته وسائل الاتصال الحديثة.

في الكثير من الدراسات والتحليلات الماركسية حتى التي سبقت صدور الكتاب المذكور بزمن بعيد هناك تفسير لهذا النوع من الانعطافات، فعلى سبيل المثال تكفي مقدمة كتاب المفكر الماركسي مهدي عامل (مقدمات نظرية) الصادر عام 1972 عن دار الفارابي في بيروت، التي يقول فيها (كلما احتدم الصراع في الحركة الكونية الحاكمة سيرورة التاريخ الاجتماعي السياسي المعاصر بين قوى التغيير الثوري وقوى الثورة المضادة، نبتت كالفطر في تربة الإيديولوجية البرجوازية مفاهيم متلونة تحل محل مفاهيم أخرى في الهجوم الرجعي المضاد على الفكر الثوري العلمي، من هذه المفاهيم مفهوم الخصوصية مثلا أو الأصالة تارة تكون الخصوصية عربية، فإذا تصدع الفكر البرجوازي بتصدع مواقع السيطرة الطبقية صارت الخصوصية هذه إسلامية)- ص5الطبعة الثالثة، وأكد أن (العقل العربي الإسلامي إن أراد أن يأخذ بالماركسية مثلاً فعلى الماركسية أن تصير عربية إسلامية وعلى العلوم الفيزيائية أو الكيميائية أيضاً…الخ)- ص 6، وهو ما نلحظه فعلاً بكثافة في معظم مقالات كتاب انعطاف الثقافة السورية الذي نحن بصدده بشكل يثير الدهشة.

لقد كان معنى التخلي عن مفهوم الصراع الطبقي تخلياً عن أنبل قضايا النضال الإنساني في التاريخ وعن الدور الوطني للطبقة العاملة والكادحة عموماً واقالة فعلية لذلك الدور، وكان ثمن التخلي غالياً جداً ندفعه جميعا يوماً بعد يوم منذ ستّ سنوات.

العدد 1105 - 01/5/2024