سباق الرابعة

قديماً كانوا يقولون إن الصحافة هي السلطة الرابعة. وحين نقول قديماً نقصد السنوات السابقة، أو العقود القليلة الماضية. فنحن في هذا الزمن المتسارع الذي يلتهم نفسه بنهم غريب، السنة فيه تعادل عقداً أو أكثر، والعقد يعادل أكثر من قرن. والسبب في ذلك يكمن في التطوّر الهائل للتكنولوجيا ووسائل الاتصال. ومن يتأمّل وسائل الإعلام الآن يدرك أن الصحافة، أو الإعلام بشكل عام لم يعد سلطة رابعة، وإنما استطاع بفعل تسارع الأحداث في العالم، ومقدرته على التحكّم بسير الأحداث، وربّما إلى حدّ بعيد، بنتائجها أيضاً، استطاع الإعلام أن يتقدّم ليحتل المكانة الأولى بين السلطات. فما الذي جعل الإعلام يحتلّ هذه المكانة؟

من خلال كثرة الأحداث في الآونة الأخيرة، وضخامتها، وتأثيراتها المتشعّبة على أكثر من صعيد، لم يكن أمام وسائل الإتصال إلاّ أن تواكب هذا التدافع العجيب للأحداث على مساحة العالم كلّه، وهذه المواكبة كفيلة بتشكيل رأي عام عالمي حول مجمل ما يحدث. وهذا الرأي العام أصبح هاجساً لدى الدول الكبرى، من حيث سرعة تشكيله، والتحكّم به، ليغدو من أهمّ أوراق القوّة في يدها، تستخدمه أينما شاءت، وكيفما شاءت، بالضغط حيناً على دول وحكومات معيّنة، وبالتهييج حيناً آخر لجماهير تلك الدول بغية توجيهها الوجهة التي تريدها.

وإذا كانت الموضوعيّة من أهمّ أخلاقيات الإعلام، فإنّها لم تعد الآن كذلك، وأصبح الانحياز السمة المرافقة لأيّة وسيلة إعلام معروفة، تختلف نسبة الاقتراب من الموضوعية بين وسيلة إعلام وأخرى باختلاف مكانتها بين بقيّة الوسائل، وباختلاف القضايا الأخلاقيّة لدى القائمين عليها. إضافة إلى المضمون الإعلامي المقدّم، أو الرسائل الموجّهة، من حيث طبيعتها وأهدافها، والنتائج المترجّاة منها.

ربّما كان الابتعاد عن الموضوعيّة متخفّياً في الماضي، أمّا وقد انكشف بسفور فاضح أثناء حرب الخليج الثانية، وما بعدها، مروراً بحرب تمّوز في لبنان الشقيق، وانتهاءً بما يجري الآن من تغطية ما يسمّى بالثورات العربية، هذه التغطية التي لم يعد أحد يشكّ بانحيازها إلى جهة دون أخرى، وذلك بما يتلاءم مع السياسة الإعلامية لكلّ وسيلة، ومع المهمّة الموكلة لتلك الوسيلة. وإذا أصبحت وسائل الإعلام أدوات للضغط أو التهديد أو المساومة، فهي بذلك تخرج عن أخلاقيات المهنة الصحفية، وتفقد مصداقيتها أمام جمهورها. ولكن، وبعد انخراطها الواضح والفاضح في الحروب الحديثة، أصبح الالتزام بالموضوعيّة آخر ما يفكر به القائمون على العمل الإعلامي.

ومع هجرة وسائل الإعلام لما كان يسمّى بالموضوعية، أصبح السباق مكشوفاً للتقرّب من أصحاب القرارات المؤثّرة على سير الأحداث بما تمتلكه من قوّة اقتصادية وسياسية، سباق يجعل من الوسيلة الأسرع صاحبة الحظوة الأهمّ عند صانعي القرارات، وراسمي السياسات في العالم كلّه. وأصبح ما كان يسمّى بالإعلام العسكري هامشيّاً، وأصبحت المحطّات الفضائية تنوب عنه، فمرّة يكون عملها عسكرياً من خلال مرافقتها وتغطيتها للأعمال العسكرية ميدانيّاً، ومرّة يكون سياسيّاً عبر برامج مدروسة بعناية، وموجّهة بدقّة إلى الجمهور المستهدف. وكلّ ذلك يصبّ في خدمة أولياء الأمور، أصحاب القرار البعيدين عن ساحة الأحداث، والمتحكّمين إلى حدّ بعيد في السياقات والنتائج.

وبعد كلّ ما رأيناه وما نراه، نصبح على يقين يوماً بعد يوم بحاجة العالم الماسّة إلى إعلام حقيقي، هدفه الإخبار الصادق أوّلاً، ومصداقية ما يُبثّ من تحقيقات وتقارير إعلامية، ربّما يستطيع الإعلام حينذاك أن يعود إلى وظائفه الأخلاقية، وإلى جمهوره الحقيقي الذي ينتظره بكثير من اللهفة، والشوق إلى معرفة الحقيقة كاملة، من دون تزييف أو خداع.

إن ما نريده من وسائل الإعلام هو عرض الحقيقة الكاملة، فربّما نصل عندئذ إلى ما نرجوه ونأمله في هذا العالم الذي فقد الكثير من ملامحه الإنسانيّة.

العدد 1105 - 01/5/2024