حين تتشابك الفصول

للسماء شيء من لون البحر، وللبحر أيضاً بعض من عمق السماء. وباندهاش عجيب يُخيَّل لنا أحياناً أنهما يلتقيان في المدى البعيد، يتصافحان برغبة اللون للاندماج. هناك يتكاثف كل شيء في غابة وهميّة، ساحرة ومخادعة.

للنبع رغبة في الغناء، وللربيع مدى واسع للإنصات، إذ ينفلت الصوت ويتوزّع في الجهات الستّ، سائراً إلى حيث لا أحد يعلم. اندهاش آخر يتواتر بين المدى الواسع، والرغبة.

للعناقيد أشكال كؤوس، وللكؤوس انتظار شتائي، يصير فيه الخمر محفّزاً للحواس لتبلغ أقصى مقدراتها على التخيّل، دون أن تتخلّص من مغبّة واقعيّتها.

لطيور (الحوم) دلالة مبشّرة بنهاية البرد، فعقد رفوفها في السماء دليل على أن الشتاء انتهى، ودافع للأطفال على الصياح بأغانٍ متناسقة، وعذبة. هو استقبال حميم لربيع أكثر حميميّة، وخروج من بيوت الشتاء الضيّقة.

لأصياف القرى رونقها الخاص. وديانها تمتلئ بصمت ثقيل في ساعات الظهيرة، تقطعه بعض أصوات الجداجد بصفيرها المملّ، والذي يزيد الصمت كثافة ورتابة. ولرؤوس جبالها في الغروب سحر لا يمكن وصفه، إنه خليط مدهش يغزله عناق الغيم لرؤوس الشجر. وتتشابك الأنظار الممتدّة باتّجاه البحر البعيد، في محاولة لرؤية مراكب راسية مثل نوقٍ تعبة.

هي بعض فصول قرانا، وفصولها لا يحددها عدد. فهي في توالد دائم، ويومها الصيفي قد يفرز عدّة شتاءات، وكذلك شتاؤها أيضاً. تآلف بين كائناتها يجعل المتأمّل عند أطرافها يصلّي بألف طريقة، ويخشع كما لم يخشع من قبل. إبداعاتها الخريفيّة لا تحدّها حدود، ففي كل زاوية يهيم شاعر، وعلى كل سطح ينوح ناي. وبين حواكيرها أرتال من المواويل.

هي الأسرار تدفعنا للتأمل، تأمّل مفرط في الشكّ، وشكّ لا يقود إلى يقين. نستسلم رغبة في الاستسلام، والخضوع لإيمان حقيقي بقدرة خالق الوجود التي لا تُحدّ. إيمان كان يدفع الناس إلى سباق لابتداع الجمال، وتلقّي معطيات الطبيعة برغبة وشوق، إيمان لم نعد نراه إلاّ عند الذين أطال الله أعمارهم، فيضيء من نظراتهم ظلمة ملأت الدروب، كما ملأت رؤوس البشر.

العدد 1105 - 01/5/2024