رحم الله أيام الخمسين..!

عندما يقع هذا العنوان بين يدي القارئ الكريم فسيقول على الفور بأن كاتب هذه المقالة قد تجاوز الخمسين من العمر وبات ينتظر المحطات الأخيرة من عمره التي يخشاها كل عجوز، لما للمرحلة التي تسبق الخمسين من وهج وأنس ووجوه حسنة تفاجئك بين الحين والآخر!

وقد يقول آخر بأن كاتب هذه المقالة يتحدث عن فترة الخمسينيات من القرن المنصرم، أيام كان الناس يتحسّسون آلام بعضهم بعضاً، ويسارعون إلى مد يد العون لكل من يحتاج.. أيام كانت جدتي تتفقد أحوال جارتها وتمدّها بالحليب واللبن ريثما تلد بقرتها! في تلك الأيام كانت أحوال الناس متقاربة ومتشابهة إلى حدّ كبير وكان للأولاد ألعابهم الجماعية التي تقوي الرابطة بينهم، على عكس هذه الأيام إذ الجميع منغمس في شاشة الكمبيوتر يمارس ألعاب العنف والقتل! وكان للرجال جلساتهم ومناقشاتهم وسهراتهم، على عكس هذه الأيام التي لا أود التحدث عمّا يشغل بال بعض الرجال فيها!

وقد يعتقد آخر بأن كاتب هذه المقالة يتحدث عن العلامة التي نالها في مادة الرياضيات مثلاً، والتي كانت كفيلة بأن تدعه يحقق حلمه ويدخل الجامعة لدراسة الفرع الذي سيجعله مدرساً ناجحاً في قريته أو القرى المحيطة، حيث يتدافع الطلاب للفوز بالسير إلى جانبه والتحدّث إليه، أيام كان للمدرس قيمة وهيبة ووجاهة، أي قبل انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية التي تحدث كل عام، إذ يتسابق بعض المدرسين إلى البيوت لإيقاظ الطالب وأهله أحياناً!

وقد يظن آخر بأن كاتب هذه المقالة يحن إلى سعر المتة قبيل عدة أشهر، حين كانت تباع في كل المحلات وعلى البسطات وفي المرائب بمبلغ خمسين ليرة بعد أول قفزة جريئة في سعرها أي قبل أن تباع في محلات الألبسة والفروج ومع بياع اليانصيب ومع سائق السرفيس أو سائق التكسي وحتى بعض جامعي القمامة، ولكن بأسعار تصل إلى ضعف السعر المسجل عليها – وعلى عينك يا تموين ويا حماية المستهلك -!

وقد يفكّر آخر بأن كاتب هذه المقالة بعد أن فتش ولم يعثر على موضوع يكتبه، رأى في الرقم خمسين ما يشفي غليله ويروي ظمأه ( كون الخمسين هي نصف المئة) لملء عدة صفحات تتحدث عن الرقم خمسين دون أن يكون هناك أي هدف أو مغزى لكتابته. وأنا لا أخفيكم أحترم هذا الشخص لمجرّد أنه فكّر فيما يجول بخاطري من أفكار، حتى ولو كانت بالية كتلك البضاعة التي تأتينا من دول عديدة والتي لا تستحق ثمن شحنها، لتغزو أسواقنا في هذه الظروف العصيبة!

لن أطيل عليكم ولن أدع لخيالكم وأوهامكم حرية التجوال في حدائق أفكاري، وسأتحدث إليكم عمّا يربطني بالرقم خمسين منذ مدّة طويلة. فافتحوا آذانكم وتحسّسوا جيوبكم وقاكم الله المكاره:

القصة وما فيها هو أنني أنا الموظف الطفران الذي لا يصدق أن أول الشهر قد اقترب حتى تنتابني نوبة سعادة مؤقتة أعتقد أنكم جميعاً تتعرضون لمثلها، وهذه النوبة المفاجئة لا تدوم إلاّ لفترة قصيرة هي فترة الانتقال من المنازل إلى الشارع لبدء عملية البحث عن مركز للصراف الآلي.

ما إن تجد سيارة تكسي وتستقيم على أحد مقاعدها وتقيّد جسدك بحزام الأمان حتى يبدأ صاحبنا ( السائق) عمليات النق والثرثرة عن غلاء الإطارات والزيت والبواجي والكوليات وما إلى ذلك، ويطلب منك أن تعطيه رأيك بكل هذا الغلاء وكأنك أحد أسبابه،. في حين تكون أفكارك تتلاطم بين جانبي رأسك كتلاطم المد العروبي هذه الأيام بين المحيط والخليج، والذي أدى إلى موجات ما بات يُعرف بالربيع العربي الذي حصدت موجاته حتى الآن مئات الضحايا والأبرياء.

المهم أنت منشغلُ في التفكير بمن سبقك واحتل مكاناً أمام الصراف والسائق عينه على العداد ( إن وجد) ويتمنى الوقوف الطويل أمام كل إشارة مرور ولكن يبدو أن الازدحام لا يقتصر على الصرافات الآلية إذ غالباً ما يصادفك في عملية البحث أعداد من المنتظرين أمام أحد الأفران أو المؤسسات أو حتى أمام مركز لتوزيع معونات من الصليب الأحمر!

تصل إلى أحد الصرافات وتبدأ برجم أول الشهر ومنتصف الشهر وآخر الشهر إذ تتعرّض لكل أنواع القهر واللّكم والضرب والدفش وأنت الموظف المسكين الذي حصل على إجازة يوم بلا راتب كي يقبض راتبه. وهكذا يمر الوقت بطيئاً إذ يمتنع الصراف عن الاستجابة أحياناً وتارة تقطع الكهرباء وتارة تحصل على إشعار بضرورة البحث عن صراف آخر، فتحمل بطاقتك وأنت مطأطئ الرأس، وتلعن أبا الصرافات الآلية وأبا البطاقات الخاصة بها، وتتحسّر على المحاسب الذي كان يستلم الرواتب من المصرف ويتكوم أمام طاولة المكتب في نهاية كل شهر ليسلّم الموظفين رواتبهم بعد اقتطاع خمسين ليرة!

الآن وبعد أن غصّت شوارعنا بالصرافات الآلية التي نتكوّم أمامها كالقطيع من ساعات الفجر الأولى حتى منتصف الليل، نقول وجيوبنا تصرخ: رحم الله أيام المحاسب أبو الخمسين ليرة!!

العدد 1105 - 01/5/2024