ويسألونك عن الصبر

ما جعلنا نعيد تذكر حكاية الصبر والصابرين هو حالة المدن السورية، بعد أن تقطعت أوصالها بالحواجز من مختلف الأشكال والألوان والأحجام… وأصبحت الشوارع التي لا يمكن سلوكها أكثر من تلك السالكة بصعوبة بسبب تراكم السيارات والكتل البيتونية.

هنا لا بد من حضور كثيف ومزمن للصبر، رغم أن المواطن السوري صابر بامتياز أباً عن جد، وهو يستحق دخول كتاب غينيس للصبر.

صمت السوريين كان عالياً على مدى عقود، كما أن دمهم الآن عالٍ وهو يملأ السماء… ولا من مجيب.

 وقد وضعت لافتات عند بعض الحواجز تحض على الصبر وتحمُّل بعض الوقت الزائد عن الحاجة.

ما حاجتنا إلى الوقت أصلاً ما دام لا يحمل لنا إلاّ المفاجآت التعيسة، يحيلنا إلى مخلوقات تصطف في طابور الموت اليومي؟

نحن السوريين نسفح وقتنا أو جُلّه في الطرقات، ونحن نرمق من نوافذ الباص أو السرفيس سماء من دخان، ونستمع إلى موسيقا القصف اليومي…

نلوذ بصبر ونحكي عنه الحكايات، بيوت أزيلت لأناس أمضوا عمرهم وهم يحلمون ببيت في منطقة مخالفات، وبلحظة ينهار الحلم.

 كم تصبح الدنيا حالكة بوجه إنسان بنى مع أسرته حلماً، وجاءت قذيفة عمياء لتنهيه!

من يلوم هذا ال (أيوب) إن صار شرراً وتطاير إلى الجهة الخطأ مثلاً؟!

أيوب السوري ما زال (يتعربش) ببصيص أمل، ما زال يذهب إلى عمله إن بقي له عمل. السوريون يتآزرون في محنة تبدو بلا أفق للحل، ويتضرعون إلى إله ربما ما زال يتذكر أن هناك من يموت ويتشرد ويتألم من عباده الصالحين جداً. 

ليست مصادفة أن يكون القران قد أتى على الصبر في خمس وتسعين آية بينة، وجدت أنسبها لوضعنا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)

ويذكّر جاره الغاضب (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً)، ثم يمضي في طريق الجلجلة حاملاً صليبه.

يلجأ إلى أسواق المفروشات المستعملة التي راجت كثيراً بعد نهب البيوت والممتلكات، فيجد أثاث منزله هناك، الأثاث الذي اشتراه بالتقسيط، يغسله بدمعة باردة ويمضي إلى (بسطة) أخرى علّه يملك طاقة على النظر إليه وحمله إلى غرفة استأجرها في حي يظنّه في عصمة عن الخراب الزاحف.

يصرُّ جاري في الحافلة المكتظة بروائح العرق والتعب أن (الصبر مفتاح الفرج)، فيجيبه أخر: ما بعد الصبر إلا نزول القبر. 

الأمثال أيضاً حمالة أوجه، وما كان يؤنس وحشة الليالي الباردة أصبح مولداً للقلق والخوف. وكما في كل الحروب والكوارث، الفقراء هم المادة الأولية للحرائق والموت والخراب، أما من كانوا ينهبون عرقهم وجهدهم فينعمون في مكاتبهم وقصورهم الوثيرة المحمية، أوفي فنادق ومنتجعات خارج البلاد. سيروي الروّاة أنَّ بلاداً تدعى سورية حملت قيح الآخرين وصديدهم، ومشت إلى غدها على جماجم الفقراء، أهرامات من الوجع السوري النقي كالألماس كانت حجارة الطريق إلى سورية جديدة، سورية ترمي خلفها كل شبهة حقد أو ضغينة، وتشرق على العالم كما عهدها دائماً منذ أول صرخة ولادة حتى آخر شهيد يغمض جفنه وهو يحلم بالحرية والأمان.

العدد 1105 - 01/5/2024