الصحفي والمحترف

تخرج في كلية الطب، لكنه لسبب ما لست بمعرض شرحه، لم يمارس أبداً هذه المهنة فلم يفتح عيادة ولم يشخِّص حالة لمريض، لم يسمه البعض طبيباً، والبعض الآخر سماه اضطراراً لهيبة يمتلكها المرء لدينا فور دخوله تلك الكلية. تذهب إلى العطار فتجده يصف لك دواء لكل داء، بسبب خبرته العالية بالأعشاب الطبية، وأحياناً تتم المعالجة التامة، ألا يصح أن نطلق عليه لقب الطبيب؟ وفعلياً أو صحيّاً ممن استفاد المريض أكثر من هذا أو من ذاك؟ ربما لا ينطبق هذا المثال على خريجي الصحافة ومحترفيها، لكنه يجاوره. فبعض المتخرجين فيها يعتقدون أن مجرد حملهم للشهادة يمنحهم صفة الصحفي المحترف، أما بعض الهواة – ومحسوبتكم منهم-  فيعتقدون أيضاً أنهم بمجرد نشر بعض المقالات في الصحف فيجب أن يطلق عليهم لقب الصحفي.

أعتقد أن الالتباس شديد في هذا المجال، وهنا نتحدث عن ممارسة العمل الصحفي الرسمي (الورقي) الذي يحرص مصدرو صحفها على زيادة عدد قرائها من جميع المستويات، وليس القصد هو صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي الحرة بدرجات مضاعفة على كل الصعد، وهنا نسأل مع المتسائلين: هل الاحتراف  الصحفي ضرورة؟

في البدء تأسست الصحافة على أيدي قراء، هواة كتابة، وليس على أيدي صحفيين محترفين ، لأن القراءة واجب على الجميع تأديته خارج أطر المدرسة والجامعة، إلا في حال اختلط معها وفيها قصد المتعة والتثقيف من كتب هذه المراحل، ومن قبل القارئ نفسه. وهذا استثناء قليل ربما نعدمه، خصوصاً في مناهجنا الجامدة التي تعتمد التلقين والحفظ، ثم التذكير قسراً.

معروف أن إنساناً محترفاً يعني أنه يمارس مهنة، فأن يأخذ المرء دروساً نظرية في النجارة أو الخياطة أو الهندسة لا يعني أنه امتهنها، إلا إذا اشتغل وطور أدواته بنفسه كي يمتلك خبرة تؤهله لخوض غمار المنافسة، لإثبات الذات المميزة لعمله بين أقرانه.

وإذا بحثنا في الشهادات التي يمتلكها المحررون في الصحافة وجدناها من جميع المستويات، بدءاً من الثانوية وانتهاء بالدكتوراه. وإذا لم يكن لدينا فكرة عن المحررين فلن نستطيع التمييز بينهم. المتلقي هنا أو القارئ بمختلف ميوله واتجاهاته وثقافته هو الحكم، فإما أن يتقبل ويقبل، أو ينفر ويدبر. ودون أن يشغل تفكيره بمسألة الصحفي المحترف أو الهاوي، ودون أن نسمي هذه الظاهرة إعلاماً بديلاً يقلب الطاولة أمام الإعلام المحترف. وليس علينا الاستهانة أو الاستخفاف بعقلية المتلقي لأنه بالتالي وبالبداية وبالنهاية هو الهدف والغاية، إن كان متلقياً باهتمامات متعددة أو مخصصة،  أو كان مسؤولاً مهتماً بالشؤون العامة .

وأعتقد أن الصحفي المحترف ولو بالفعل اتبع معايير المادة الصحفية- وهو ذو مصداقية وواثق برأيه من إنتاجه كصياغة بليغة مشوّقة ترتقي إلى مستوى إبداعي معرفي – فإنه سيلقى النجاح وسيجذب القراء لما يسطر على أية مدونة، لأن سقف الصحافة يوائم سقف الأدب. والصحفي هو مشروع كاتب يجب أن يكرس بصمة مميزة لمشاريعه الصحفية. وذلك بالتأكيد يتبع أيضاً نهج الصحيفة، ولطريقة الإخراج وإبراز العناوين التي كما يقال تنطق بسبق صحفي. ولا أعتقد أن مراعاة (دغدغة) مشاعر القراء باحترام وبلا مبالغة أو تسطيح حالة سلبية في الصحافة، لأن المشاعر موجودة في كل فعل تجنى ثمرته لمصلحة المرء. ويجب ألا ننكر أهميتها طبعاً دون إهمال لمستوى ذكاء المتلقي لئلا يحصل التجاهل، وبالتالي فإن مشروع الكاتب هذا لن يكتمل إلا بالكد والتعب لأجل زيادة المهارات، بالتثقيف المتواصل والقراءات الكثيرة بكل المجالات، وخاصة بالاختصاص الذي قرر الصحفي المحترف التوجه لخوض غماره وسط الكثير من المعوقات وربما التهديدات، كقضايا المجتمع والمال والاقتصاد أو قضايا الفساد… إلخ.

فهل المطلوب في النهاية من المحرر غير المتخرج في كلية الصحافة (الهاوي) التنحي جانباً، كي يثبت خطأ ما تقترفه يداه من تعميق الهوة بين الصحافة والمتلقي الذي حوله هذا الهاوي الفاشل إلى سلعة بدغدغة مشاعره! يا للهول، أعتقد أن في ذلك إجحافاً شديداً منبته السعي لإلقاء أسباب الفشل أو الضعف على شماعة كائن من كان. وكما يقال الساحة مفتوحة للجميع (بلا وساطات).

العدد 1105 - 01/5/2024