تساؤلات

إذا كان لا يحق لنا أن نسأل، فلا يحق لأحد أيضاً أن يمنعنا من التساؤل. ولأن التساؤل نوع من الهجس فإنه يكتنه حصانته في ذاته، بمعنى أن التساؤل هو سؤال غير مسموع، ولأنه كذلك فهو يحصّن صاحبه من العقاب في زمن يعاقَب فيه السائلون على أسئلتهم. ومن دون أن أتيقّن أن هذه المقدّمة تبيح لي أن أقول ما سأقوله بعدها، قررت في لحظة غيرة على وطن (يتشقلب) على صفيح حارّ، أو على مساحة تتزايد فيها النصال يوماً بعد يوم.

هي بعض مما أراه من عيوب ساهمت في إيصالنا إلى ما نحن عليه، عيوب متراكمة منذ زمن بعيد، وشكّل تراكمها طبقة سميكة وقاسية وعصيّة عن الزوال. كم تمنّيت أن أرى مؤسسة في هذا البلد فيها من الإيجابيات أكثر مما فيها من السلبيات! وكم تمنّيت أيضاً أن أرى مؤسسة تسعى لتدارك وضعها المأساوي قبل أن تحلّ الكارثة، وتنهار! وبعد كل هذه التمنّيات صرت أشتهي أن تصدق نبوءتي ولو مرّة واحدة، لكن ذلك لم يحصل. أين السلبيات التي أتكلّم عنها إذاً؟ تنبّأت بالكوارث، وهاهي الأمور ماشية (وعين الله عليها) إذاً أنا متشائم زيادة عن اللزوم.

إذا نظرنا إلى الأمور بهذه البساطة فإنني أبالغ بالفعل، ولكن إذا انفرجت زاوية الرؤية أكثر، فبإمكاننا أن نرى الأمور بدقّة أكثر، والمواطن الذي يعمل في مؤسسة حكومية لا أشكّ أنه الآن يشاركني هذه الهواجس والتساؤلات كلها. وبنظرة أوسع أيضاً نتيقّن من أن معظم العاملين في مفاصل حساسة لمؤسسات الدولة لا يعرفون واجباتهم بدقّة، ولا يهمهم ذلك، المهم عندهم هو أن يرضى عنهم (معلّموهم) وهؤلاء المعلّمون أيضاً لا يهمهم إلاّ النظر صوب المناصب التي (فوق) كيف ستستوي الأمور إذاً؟

هل أملك المشروعيّة في التساؤل عن السبب في أن الموظف الذي يتم إيفاده إلى الخارج يتقاضى مرتباً يعادل مرتبات أكثر من عشرين موظفاً؟ وهل يعرف كل الموظفين في هذه الدولة ذلك؟ ألا يحقّ لي أن أتّهم هذا النظام المالي الذي يفرق بين الموظفين بهذا الشكل، بأنه نظام مالي فاسد؟ ولماذا يحتكر السفر خارج البلد ثلّة من الموظفين الكبار في الوزارات والمؤسسات؟ حيث نجد قلّة من الموظفين يسافرون بشكل دائم، وغيرهم يحلم وينتظر الزيادة المقررة كل سنتين، ربما يتحسن النظام الغذائي لأسرته قليلاً.

لماذا يُطرح مشروع قانون للتقاعد المبكّر كل حين؟ بينما نجد في كل مؤسسة نسبة لا بأس بها ممن وصلوا إلى سنّ التقاعد، ويتمّ التمديد لهم في الخدمة بشكل دوري، أليس هذا تساؤلاً مشروعاً؟ أليس تناقضاً مفضوحاً في أداء القائمين على اقتراح أو إصدار القوانين والقرارات؟ ومن دون أن نسأل تصلنا الإجابات بأن أسباب ذلك تعود إلى خبرة الموظفين القدامى، (وعلى فكرة كل الممددة خدمتهم هم من الموظفين الكبار الذين يقترحون مشروع قانون التقاعد المبكّر)

من البديهي والمنطقي أن يكون أصحاب التجربة في المؤسسة أحق من غيرهم في تسلّم المناصب ضمن المؤسسة ذاتها، وأقصد بغيرهم أولئك الذين يأتون من مؤسسة أخرى، نقلاً أو ندباً. لكننا للأسف نجد عكس ذلك، وكأن المنقول نُقِل خصيصاً ليتسلّم هذا المنصب أو ذاك، أو ليمثّل هذه المؤسسة خارج البلد، تلك المؤسسة التي لا يعلم عنها ولا عن طبيعة عملها شيئاً. ولا شكّ أن الزملاء الموظفين في مؤسساتنا العتيدة يعرفون حقيقة مأساويّة أخرى، تتمثّل في مركز القرارات لكل مؤسسة، والمدير الحقيقي لتلك المؤسسة، والمتمثّل في شخصية سحريّة تجلس في الظلّ، وتدير أمور المؤسسة كلها، ويبقى المدير مديراّ فارغاً إلاّ من التسمية. ألا يحقّ لنا أيضاً أن نتساءل عن هذا السرّ العجيب، وخاصّة أن تلك الشخصية السحرية لا يمكن أن تُحال إلى التقاعد، وتكون عادة من أقرب المقربين وظيفياً إلى المدير الإسمي، والفارغ من أي عمل هامّ.

وحين نطرح كل فترة مقولة (الرجل المناسب في المكان المناسب) نجمّل فيها أداءنا الرديء، ونيّتنا السيّئة، لأننا لا نرى إطلاقاً رجلاً مناسباً لمكان يشغله. وإذا كان من حقنا أن نتساءل ونهجس، يكون من حقّنا أيضاً معرفة الأسباب الحقيقية لما يجري في بلدنا الآن من أزمة وضعت وطننا الغالي على حدّ السكين. ولأننا على يقين من أن مجتمعاً محصّناً لا يمكن اختراقه، ندرك مدى التحلل الذي نعاني منه، أفراداً ومؤسسات، ومدى الفساد المتغلغل في النفوس والقلوب قبل أن يصل إلى المؤسسات، وقبل أن نتساءل أخيراً عن مصير قانون المحاسبة القديم (من أين لك هذا) نتساءل إلى أين يقودنا غياب هذا القانون، بل إلى أين أوصلنا تجميده في أدراج من تمدد خدماتهم كل عام؟

العدد 1105 - 01/5/2024