سوء فهم

الاجترار- أجلّكم- يولد الملل، وأنا من هؤلاء الناس الذين إذا سمعوا أو قرؤوا الشكوى أكثر من مرة، فإن مرارتي تعتصر، وتكاد تطق من أصحاب الجبهتين معاً، الشاكي والمشتكى عليه، الجاذب والمجذوب، الفاعل والجازم بأمره، والمفعول به ولأجله، ونائبه والذي جرَه للفعل بكسر جميع حروفه التي تدعمه كي يبقى يمشي على قائمتين. 

ثمة أخطاء يقع فيها المرء، أو سوء تفهم لوضع من الأوضاع، كأن تشتكي من أمر تنقشع أمام عينيك حقيقته المرَة بالسوء الذي يغمرك حتى يكللك بالشوك، لكن رداً غريباً تتلقاه من إحدى الجهات الرسمية  مفشّلاً لتقديراتك يقرَ بأنك أعمى وأحمق، لأنك شردت عن جمال الحقيقة والصواب الذي ينجلي أمامك كعين الشمس، وتكاد تقف مندهشاً تمسح الغشاوة المضللة لرؤيتك، فتصمت عند حد التساؤل فقط عن السبب الذي يجعل بعض أبناء آدم وحواء ينقلبون إلى أبناء آوى المخادعون دون رادع من حياء. هكذا تمل شكواك والمشتكى إليه، فتخيل مثلاً أن تشتكي في هذه الأيام من الغلاء المعيشي وأن تفرد سطوراً كي تعد أنواع السلع التي حلقت بأسعارها فما عادت أجنحتك قادرة على الطيران  ثم يشطح بك خيالك فتطالب بزيادة الأجور مثلاً فتؤكد سذاجتك، هل ستشتكي وأنت معتقد أن الحل سيأتيك على رأس صاروخ ليطحن عقدة فيفنيها كأنما لم توجد أصلاً؟. أو تخيل مثلاً وأنت بكل براءة أردت إخطار الحكومة أن الكهرباء لا تشرفنا بوجودها إلا لساعات قليلة في اليوم، هذا الدعم الفائق الجودة الذي يحرَضنا في عز عزوتنا ونحن ننصهر في فوهة بركان الترقب، كي نعيش رومنسيتنا التي كدنا ننساها في خضم دلف الهموم فوق رؤوسنا بلا جدوى حتى من الإحساس بها، وعلى ضوء الشموع أو الشواحن التي تبدأ بإطلاق أنفاسها الأخيرة بعد أول ساعة من تشغيلها، فنكتمها و ننغلس تحت اللحاف نرتجي النوم أقرب وأرخص دواء للهروب من الواقع منعاً للاكتئاب، فنكتشف أيضاً فائدة جديدة وهي أن نضاعف أحلامنا ونضخَمها لعلنا نحقق في القريب العاجل قدراً ضئيلاً منها، لن أشتكي لأن الحل سيأتي من تخيلاتي وبعض  أوهامي؟ أم ما رأيكم دامت الأنوار في دياركم؟

ثم إنني أكون ساذجة عديمة الشعور بأهوال الوطن والدماء التي تسقي ترابه لو اشتكيت من أكوام النفايات المفروشة على أرضه بامتداد قذارات نفوس الانتهازيين ممن أفقروه دون وجل أو رادع من ضمير، وأكون سطحية المشاعر لو تذمرت من الازدحام المهول، في حين أن قلب المدينة هو الملجأ الوحيد لبعض المشردين النازحين، أو من كثرة الحواجز والمداخل المغلقة، والهواء الملوث إلى حد يقربك من الاختناق حبساً للأنفاس، وهناك من اختنق من طلقة، الفرق شاسع.

قائمة الحالات التي تستدعي الشكوى والتذمر تمتد بطول البلاد وعرضها بسمائها وأرضها حتى قوانينها ودساتيرها، وتتسع أيضاً على مدى التنهيدة والزفرات قائمة التذمر من الذات والروح المستسلمة الراضخة اليائسة البائسة التي تأسرها وتلفها العواصف بدوامة لولبية صاروخية ثم تطيح بها في متحف للأنفاس المحنطة، لعل روحاً أخرى تسكنها فتستفيق على صبح الأصباح.

في هذه الظروف العصيبة علينا جميعاً، نحن مستعدون للصبر، على أمل بأن الأجمل الذي لن تطول إقامته في البعيد قادم لا محالة، و خوفنا على الوطن ودعمنا وعشقنا له يتنامى مع الزفرة الأخيرة لكل شهيد يعطر بدمه ترابه الحزين.

 

العدد 1107 - 22/5/2024