النتائج المدمرة للعولمة المتوحشة في سورية

لا توجد اليوم مشكلة في العالم بأسره ليس للولايات المتحدة الأمريكية يد فيها، سواء في السر أم في العلن. ويعتبر العامل الاقتصادي هو الدافع الجوهري لنظام الهيمنة الأمريكية على مقدرات دول العالم، ويقوم على خدمة هذا العامل جملة من العوامل الملحقة كالثقافة والسياسة والإعلام والعسكر.

إنه النظام العالمي الجديد، آخر ما أنتجته الإمبريالية الرأسمالية بنسختها الليبرالية الجديدة، المقنعة بالحرية الفردية، كغطاء لحرية حركة الرساميل وانفلاتها في الاستغلال والاستعباد، وإفقار الشعوب ونهبها، وتحطيم كل من يقف عائقاً في طريق تلك الحركة من الدول والأحزاب والأفراد.

هذا الفهم المختصر الموضوعي والطبقي للصراع، شكل الحد الفاصل بين رافضي الاستعمار الكوني الجديد ومقاوميه، من جهة، والمروجين له وأتباعه، من الجهة الثانية، الذين زجوا أنفسهم على جبهات العنف، التي رسم خرائطها العرقية والطائفية والمذهبية هذا الاستعمار.

في المقابل فإن جملة من الأخطاء الناجمة عن تضخم البرجوازية الطفيلية السورية وممارساتها غير الشعبية في إدارة البلاد من جهة، والارتباك الذي أحدثه فراغ غياب الاتحاد السوفييتي المفاجئ عن المسرح الدولي، من جهة ثانية، قد خلقت مأزقاً كبيراً في روحية التعاطي مع القضية الوطنية، حال دون رفدها بأسباب قوة الممانعة الشعبية، ومقاومة الهيمنة الأمريكية، وخلخل تماسك الجبهة الداخلية المعادية للاستعمار، بما أدت إليه تلك الممارسات، من تحييد لطبقة العمال والفلاحين عن الصراع، ورميها كلقمة سائغة للقوى الخارجية التي ربحت ورقة داخلية فاعلة ومؤثرة.

ولو أن التمسك باستقلال القرار السوري في ظل الهيمنة الأمريكية، هي قضية نضالية ذات سمو كبير تحسب للقيادة السورية، بعد رفضها إملاءات كولن باول في 2 أيار 2003 حين كانت واشنطن تطوق سورية من كل الجبهات، العراق وتركيا واسرائيل والأردن، وتصريح كولن باول فيما بعد للصحافة بأنه أبلغ الرئيس الأسد قائلاً: (تستطيع أن تكون جزءاً من مستقبل إيجابي، أو أن تبقى في الماضي، مع السياسات التي تتبعها.. الخيار لك)! فإن أكبر قوة في العالم كانت ستعجز عن اختراق المجتمع السوري لو تكاملت وحدة موقف القيادة، مع موقف الجماهير الشعبية.

في منحى مغرق في التبعية، كانت السعودية التي يقوم تاريخها ووجودها بالكامل على تأمين المصالح المتبادلة بينها وبين الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، لا تملك خياراً آخر غير اتباع النهج الاقتصادي الأمريكي، وتعزيز تكاملها في الأسواق العالمية، ولا تملك كذلك غير تنفيذ المشروع الأمريكي لتقسيم المنطقة، الذي أقرت إدارة جورج بوش تبنيه عام 2003، وفي هذا الإطار تحمست لهدف بقي يدغدغ مخيلة السلالة الحاكمة، منذ خمسينيات القرن الماضي، للعب دور مركزي مساوٍ ومكمل للدور الصهيوني، وهو حكماً دور يتطلب إزاحة العائق السوري، فحين صرح عام 2005 الصهيوني برنارد لويس، واضع مشروع التقسيم، بضرورة استثمار تناقضات شعوب المنطقة العرقية والقبلية والطائفية، لم تتأخر السعودية عن إعلان تبرعها بتنفيذ المشروع داخل قلعة المقاومة، ففي 15 تشرين الأول 2006 ظهر في مجلة (الحجاز) عنوان عريض (السعودية تتبنى بشكل صريح مشروع إسقاط النظام السوري)، وشرح المقال المرفق طبيعة التحركات السعودية الطائفية والمذهبية، والشخصيات الداخلية والأطراف اللبنانية والغربية المشاركة، ولحقه عنوان آخر (مستقبل العلاقات السعودية السورية)، بعد شهر تماماً من العام نفسه، تحدث عن تعامل الرياض مع الإخوان المسلمين وعبد الحليم خدام، والذراع السعودية في لبنان، لتأجيج الحملة العدائية ضد سورية، وطرح الأمير بندر بن سلطان على الأمريكيين خطته لإسقاط النظام السوري والمساهمة السعودية فيها، وحسب جريدة (الأخبار) اللبنانية في 28 أيار 2007 فإن الرئيس بشار الأسد أبلغ الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى تفاصيل محاولات السعودية جر الغرب لغزو سورية وقلب النظام، لكن الحقيقة أن أية إجراءات عملية وقائية أخرى على الصعيد الشعبي السوري لم تتخذ رغم ذلك، وهو أحد أكبر الأخطاء الداخلية .

 عام 2008 خرجت إلى العلن خطة بندر بن سلطان، بالتعاون مع السفير الأمريكي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان، ونشرت العديد من الصحف والمواقع الالكترونية تفاصيل الخطة القائمة على النقاط الرئيسية التالية:

أولاً_ تجهيز شبكات داخلية، عبارة عن خلايا عسكرية نائمة، بالتزامن مع شبكات خارجية لتهريب السلاح والتكفيريين السلفيين، عبر دول الجوار إلى الداخل السوري.

ثانياً_ استخدام الوسائل الإعلامية لبث الفتنة الطائفية والمذهبية، بين فئات المجتمع وبين الجيش والشعب، وبث الشائعات والتركيبات والأفلام الملفقة، لإظهار قتل النظام لشعبه الأعزل.

ثالثاً_ الحصار الاقتصادي والدبلوماسي، بالاعتماد على فرض عقوبات على سورية، وتجميد عضويتها في الجامعة العربية وطرد سفرائها.

وفي العام نفسه رفض الرئيس بشار الأسد مرور خط الغاز القطري عبر الأراضي السورية الى أوربا، الذي كانت الغاية منه خنق اقتصاد كل من روسيا وايران.

في13 تشرين الأول عام 2010 أصدر السعودي صالح بن عبدالله القرعاوي، وهو مؤسس تنظيم كتائب عبدالله عزام، المتصل بالقاعدة، والمقرب من بندر بن سلطان وبعض أمراء العائلة المالكة في السعودية، بياناً بشر فيه بقرب وقوع مواجهة كبرى بين السنة والشيعة على أرض الشام، في سورية.

وعلى الرغم من كل التنازلات التي قدمتها سورية باتجاه اقتصاد السوق، لكن تحفظها على التوقيع النهائي على اتفاقية الشراكة السورية الأوربية، ورفضها مرور خط الغاز القطري، ورفضها الإملاءات الأمريكية، ورفضها معاهدة كامب ديفيد، والتطبيع مع كيان العدو الصهيوني، وقد بقيت ألدّ وآخر أعدائه بين الجيران، إضافة إلى نفوذها المستمر في لبنان، عبر حزب الله، ودعمها له ووقوفها وراء صموده وانتصاره في 2006، ودعم كل حركات المقاومة، ودعم حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعلاقاتها المميزة مع إيران، وإفشالها تاريخياً كل المشاريع الغربية المخططة للمنطقة، على الرغم من كل ما ذُكر، فإن محاولة التخلص من نظام الحكم فيها قد بدأت، وأطلقت شرارة  استهداف أمنها واستقرارها، ووحدة مجتمعها ومؤسساتها، وتاريخها وثقافتها، في آذار 2011 بالتزامن مع ما سمي بالثورات العربية وتحت غطائها، ولعب إعلام الدول التي أوجدت الكيان الصهيوني، وتقوم على حمايته ورعاية تمدده، بإعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة، ولعب الإعلام الخليجي والتابع لقوى 14 آذار اللبنانية دوراً كبيراً جداً في تأجيج اللهيب، وتوسيع مساحاته، وكان يجري تطبيق بنود خطة بندر على الأرض تباعاً، في الوقت الذي أحيطت بهالة من التمويه، وصلت الى حد اعتبار المعارضين والمثقفين المأجورين أنها من نسج خيال أجهزة النظام السوري، لكن في الوقت الذي كان هؤلاء يتحدثون واهمين عن سرقة الثورة من قبل الجماعات الإرهابية، كنا متابعين للوقائع وتطورها، ومقارنتها مع بنود الخطة، وكلها تؤكد أن ما جرى كان مخططاً مبيتاً ومدروساً خطوة بخطوة، كما تؤكد ذلك التصريحات والوثائق التي صدرت لاحقاً، ونشرت عدداً كبيراً منها في مقالاتي السابقة، فأكتفي هنا بأحدث مقطع فيديو ظهر فيه أمير قطر حمد بن جاسم، على وقع الخلافات الأخيرة بينه وبين السعوديين والإماراتيين بتاريخ 16حزيران 2017 منشور على العديد من المواقع، ومنها شبكة دمشق الحدث الإخبارية، يقر فيه بارتكاب أخطاء في سورية ويقول:

( كلنا عملنا معاً سعوديين وإماراتيين وقطريين وأمريكيين وحلفاء آخرين، في غرفتي عمليات، واحدة في الأردن، والأخرى في تركيا، ودعمنا جميعاً الجماعات الإرهابية، لأننا كنا نعرف أن الإرهابيين عندما ينتهون من سورية سوف يأتون الينا)، لكن إثبات تورّط الجهات الإقليمية والدولية، ليس أقل صدماً من الإحصائيات الأخيرة المنشورة عن أعداد المجموعات الإرهابية، وجنسياتها وتمويلها، بعد أن استقدمتها تلك الجهات لقتال شعبنا وجيشنا، وتدمير بلدنا من 93 دولة في العالم، وتتحدث الأرقام عن  360 ألف إرهابي، سخروا لقتال الجيش السوري منذ عام2011 حتى نهاية 2016، قاتلوا بالتناوب، وكان الرقم الأعلى خلال عام 2015 وصل الى 150 ألف ارهابي أجنبي ويقدر العدد حالياً بـ 90 ألفاً، وعدد من يحملون جنسيات أوربية وأمريكية منهم وصل الى 21500 عاد منهم 8500 إرهابي إلى بلدانهم، ووصل عدد قتلى الإرهابيين السعوديين إلى 6000 قتيل، كما وصل عدد الفصائل الإرهابية داخل سورية إلى 800 فصيل، وتحتل البلدان التالية المراتب العشر الأولى في أعداد الإرهابيين الذين قاتلوا في سورية بالترتيب: (السعودية – تركيا – الشيشان – تونس – ليبيا – العراق – لبنان – تركمنستان – مصر – الأردن ) وغيرها، وتتصدر السعودية قائمة تمويل تلك الجماعات بـ 18  مليار دولار، تليها قطر بـ 17 مليار دولار، أما الإحصائيات المتعلقة بنتائج ذلك الغزو الأممي الوحشي، النادر من نوعه في التاريخ، فتدل على أن ما بين 320 الى 465 ألف مواطن سوري لقوا حتفهم كنتيجة للغزو، يضاف إليهم مليون جريح و6 ملايين مهجر داخل سورية، وما يزيد على خمسة ملايين لاجئ، فضلاً عن المخطوفين والمفقودين، ولا تشكل هذه الأرقام سوى جزء من نتائج الغزو، إذ إن ما يقارب نصف عدد السكان اضطروا لمغادرة منازلهم ويعتبر 3.5 ملايين سوري في الداخل، بحاجة ماسة إلى المستلزمات الأولية و58% من السوريين يعيشون في فقر، ويعيش في إعاقة دائمة حولي 2.8 مليون سوري، ويعتبر أكثر من 3 ملايين طفل محرومين من التعليم. أما حجم الدمار في القطاعات الإنتاجية والبنية التحتية، فقد توصلت دراسة أولية إلى أن الخسائر حتى عام 2016 تقدر بنحو 300 مليار دولار، بينما بلغت خسائر الناتج المحلي 259 مليار دولار، فإذا أضف ناإلى كل ذلك كم من جرائم حرب قد ارتكبت، وكم من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي ولشرعة حقوق الإنسان! وكم من النساء خضعن للاسترقاق الجنسي! وكم من الأسر تفرقت في كل أصقاع الدنيا! وكم من الذل واجه شعبنا في الخارج! وكم من التغييرات العميقة طالت المنطقة بأسرها! كل ذلك بهدف تنصيب رئيس دمية بيد واشنطن والرياض وتل أبيب، مأمور لا يملك أن يوافق أو يرفض، وهو هدف لم ولن يتحقق، فإننا نستطيع تقدير إلى أي مدى من الوحشية السادية غير المسبوقة وصل هذا النظام العالمي، الذي تقوده واشنطن.

العدد 1105 - 01/5/2024