آحو يوسف..لا تقل وداعاً!

في حياة كل منا أشخاص من الصعب نسيانهم، يتركون بصمتهم الواضحة الجلية، تلك البصمة تحافظ على آثارها آماداً طويلة.

من هؤلاء الأشخاص الذين عرفتهم في موسكو الرفيق آحو يوسف، الشاب المفعم بالحيوية، المتدفق بالعطاء، الممتلئ بالمحبة، صاحب الطاقات الخلاقة، فهو إضافة إلى مهاراته في تخصصه في علوم الفيزياء والرياضيات، كان يجيد اللغة الفرنسية واللغة الإنكليزية، إضافة إلى السريانية.

أما إتقانه اللغتين العربية والروسية فشيء مدهش حقاً، فمن الصعب جداً أن تجد له خطأ قواعدياً أو لغوياً في  العربية، أما الروسية فقد تفوق فيها على الناطقين بها، فلم يكن أحد من الروس يصدق أن اللغة الروسية لم تكن لغته الأم.

معرفة أكثر من لغة تفتح نوافذ للتكوين الثقافي، إجادته أكثر من لغة فتحت أمامه أفقاً لولوج معارف مختلفة فلسفية، أدبية، فكرية، إضافة إلى انشغاله الأول في العمل الحزبي وانخراطه في أنشطة منظمة الحزب الشيوعي السوري في موسكو، التي كان في يوم ما سكرتيراً لها.

معرفتي بآحو يوسف تعود إلى عام 1985 عندما كنت في موسكو، والتقيت به مسؤولاً حزبياً ومثقفاً عضوياً، كرس معظم وقته لخدمة الأفكار التي يحملها، بكل دأب ونشاط.

آحو يوسف.. واحد من الحالمين الذين أعطوا أحلامهم مادية التشكيل، لم يعش أوهاماً، كان صادقاً ومقتنعاً بكل كلمة يقولها، يحولها إلى سلوك وفعل.. إنه جندي متطوع مع آلاف الحالمين أمثاله بتغيير العالم المتصدع، وبناء عالم جديد يخلو من الاضطهاد، وتتحقق فيه إنسانية الإنسان المصادرة.

دائماً السباقون يدفعون ضريبة سَبقِهم، وآحو بحماسته وتوقده وثقته بإمكانيات التغيير في حزبه وفي العالم، دفع ضريبة باهظة، فدائماً ثمة قوى معيقة تكبح جماح الأحلام وتصادرها، بذريعة ثقل الواقع وما يحمل من تركات.

لم تلن عزيمة آحو، عاش حياته متابعاً لأحدث النظريات العلمية، والمنجزات الفكرية والنتاجات الأدبية، حاول نقلها إلى بلده سورية بعد عودته إليها، حاملاً شهادة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة الصداقة بين الشعوب، طامحاً إلى عمل يليق بالخبرة المتحصلة لديه، فوجد أبواب الجامعات مقفلة في وجهه، ولم تفلح كل المساعي التي بذلت من أجل ذلك.

حاول آحو أن يعمل في الحزب، وقدم مساهمات في الحقلين الفكري والتنظيمي، لكن أفكاره ورؤاه وتصوراته التي تحمل قدراً كبيراً من التجديد والابتكار اصطدمت بمعوقات الألفة والاعتياد والرتابة، فما كان منه، وبسبب ضيق ذات اليد، وانغلاق الأفق أمامه، إلا أن عاد إلى موسكو، وبعدها وإثر الانهيارات الكبرى والمشاكل الشخصية غادرها إلى السويد، ليعود باحثاً ومحاضراً في تاريخ الآشوريين الذين ينتمي عرقياً إليهم.. وهو مازال هناك يكافح ويواجه المصاعب بكل ما يملك من قدرات وما يتصف به من شجاعة في الفكر وفي القول والفعل.

آحو.. أيها الصديق الصدوق، لا تقل وداعاً، ما دام القلب يخفق، والفكر يعمل، والشمس تشرق، فلا يحق لنا أن نفقد الأمل، ونحاصر برهبة الغياب، أيها الحاضر معنا بذلك التوقد والحماس والابتسامة العذبة.

أمامنا الكثير يا آحو مما لم ينجز بعد، فلا تتركنا على قارعة الطريق، نحن اليوم في محنتنا الكبرى بأمس الحاجة إلى أفكارك النيرة وخبرتك العميقة، فلا تبخل علينا ببعض ما تملك وأنت تعلم جيداً أن الإنسان لا يملك إلا ما يعطيه، وقد عودتنا على عطاءاتك، فجُد بما لديك أيها الصديق الرفيق الإنسان الحالم، مهما تكسرت الأحلام وصودرت، وسرقت، تبقى لدينا قدرات هائلة لا تنضب من طاقات الحلم بمستقبل أفضل، لنا ولأبنائنا من بعدنا، فلا تتعجل الرحيل.. وكن على ثقة بأن دقائق منتجة نحياها بعمق تساوي عمراً كاملاً نضيعه هدراً، فلا تهدر ما تبقى من جواهر وقتك، ولا تجعل الابتسامة تهجر وجهك البشوش، كم نود لو كنت معنا نشاطرك ما تعانيه، نحمل معك بعض آلامك يا من حملت معنا وعنا الكثير، وجنبتنا بحكمتك ونفاذ صبرك الوقوع في عثرات قاتلة.

نحن معك وإن اشتطت المسافات، فعلاقات الأفكار وخفقات القلوب لا تعرف المسافات.. مرة أخرى نحن معك، فكن أيها الصديق مع نفسك في محنتك المؤلمة!

 

العدد 1104 - 24/4/2024