القلب الأخضر للماركسية (2 من 2)

الماركسية الراهنة: قضايا الشيوعية ومصير كوكب الأرض


من سمات الماركسية الراهنة الإهمال غير المبرر في أجنداتها النضالية للقضية الإيكولوجية. كما لو أنها ليست هي الأخرى ثغرة من ثغرات النظام البرجوازي الحالي وأزمة من أزماته الحالية. ولو أن تأثير الرأسمال البرجوازي وإرادة الربح السريع والطائل يتم أكثر فأكثر على حساب رغبة البروليتاريا في تسليم كوكب الأرض إلى الأجيال القادمة، وهو ليس خالياً من استغلال الإنسان للإنسان فقط، بل خالياً أيضاً من سائر الكوارث الإيكولوجية. إن أزمة الرأسمالية تبدو في أعلى مراحلها الآن، وأكثر ما تتمظهر في الجانب الإكولوجي.فهي (أي الأزمة) ليست ناضجة أمام الأعين فقط بل (أخذت تتعفن).
اختار المفكر العربي الماركسي سمير أمين العودة إلى ماركسية الأصول، للبحث عن ماركس المفقود في عدد من قضايا العصر الراهن. وإن كان هذا الأسلوب يمثل حرجاً مرضياً لدى بعض الماركسيين أنفسهم. لكن ليس ثمة من طريق آخر غير الإغتراف والتزود من أصول الماركسية. إلا أن ذلك لا يخفي الطابع الابتكاري والرغبة في تطوير الأشياء. ففي كتاب قيم لأمين (في نقد الخطاب العربي الراهن) يحدد معنى أن يكون الإنسان ماركسياً اليوم بقوله: (إن المفكر الماركسي هو الذي يبدأ بماركس، وينطلق منه، ولا يقف عنده) لقد مهد لطريق واسعة في البحث الحر عن حلول ماركسية لقضايا لم تحددها الماركسية الأصل بالدقة المطلوبة. ومن ذلك قضايا الإيكولوجيا.
وهو يتكلم عن الطابع العولمي للرأسمالية الموسوم بحركية عالية من الاحتكار والاستقطاب العالمي لقوى ومصادر الإنتاج ومجالات توزيع هذا الأخير والتعميم العالمي لهذا النموذج الذي لم يسبق أن شهده تطور النظام الرأسمالي. كان لا بد أن يؤكد أن الربح السريع، كشريعة وغاية للأنظمة البرجوازية الآن، يحمل في طياته كل مقومات تدمير البيئة. (إذ يختفي الخطاب السائد حول مزايا المنافسة المعلنة.بينما تهدف ممارساته إلى الحفاظ على مصالح الاحتكارات، حتى لو كانت ضد مقتضيات المنافسة، في الوقت ذاته يرفع شعار حماية البيئة، بيد أنه يفضل الأرباح القصيرة الأمد.على السياسات الاقتصادية الطويلة الأمد، الأمر الذي يلغي قدرته تماماً على مواجهة تحديات تدهور ظروف البيئة) (5).
لكن  سمير أمين، في سياق البحث عن جوانب تمظهر الإخلال بالبيئة، أشاد بروعة المقولة المار كيسة الواردة في المجلد الأول لكتاب الرأسمال: (إن الإنتاج الرأسمالي لا يطور إذن التقنية وتدبير قضايا الإنتاج الاجتماعي إلا باستنزافه، في نفس الآن، للموردين الاثنين اللذين تنبع منهما كل ثروة: الأرض والعامل).لكن الأروع هو الافتخار العارم لسمير أمين(والذي يتقاسمه معه كل ماركسي يتفهم أزمة الرأسمالية الاحتكارية في عصرنا تجاه تدمير الكوكب) وهو يعيد اكتشاف (القلب الأخضر لماركس)، والحب الكبير الذي يكنه للإنسانية القادمة. وعدا إشارات العتاب التي يرسلها غير مشفرة إلى الشيوعيين رافضي الاهتمام بالبيئة إلى جانب مهامهم الأخرى، فإن مقولته التالية أقرب إلى (وصية محررة) بالعود الأبدي إلى الماركسية التاريخية من أجل صياغة حلول لقضايا راهنة. (وتلك جملة رائعة كتبها ماركس سنة 1863 كان من شأنها أن تقنع بيئيي عصرنا بأنهم لم يفعلوا سوى أنهم أعادوا اكتشاف ماركس الذي لم يسبق لهم أن قرؤوه أبداً. وأهنئ نفسي بالتأكيد لأن ما كان يجب حمله على محمل البداهة منذ مدة طويلة قد تمت أخيراً إعادة اكتشافه في عصرنا) (6)
إن قضية دمار البيئة الواضح في عصر الاحتكار الرأسمالي لقوى وموارد الإنتاج، والتي تهدد بدمار الجنس، ليست فقط قضية أزمة الرأسمالية الراهنة، بل هي قضية من صلب النظرية الماركسية نفسها التي يجب إعادة اكتشافها مراراً ومراراً.
لقد دفع ذلك بسمير أمين في تحديده للمشهد العالمي الراهن أن رفع أزمة الرأسمال الصناعي بشأن البيئة إلى مرتبة التناقض الجوهري.
في حين أن التناقضين الآخرين يتصلان بعلاقات الإنتاج والاستقطاب. (يتحدد النظام الرأسمالي اليوم ويتسم بثلاثة تناقضات أساسية، وهي تناقضات جوهرية بالمعنى الذي يجعل النظام غير قادر على مجرد التفكير في تجاوزها (…)إن السمات الثلاث من حيث صياغتها المكثفة هي كالتالي:
1  علاقة إنتاج جوهرية (العلاقة الإنتاجية الرأسمالية) تحدد وضعية خاصة لاستلاب العامل، ووضعاً لمجموعة قوانين اقتصادية خاصة بالرأسمالية.
2  استقطاب لا مثيل له في التاريخ على المستوى العالمي.
3  عجز عن وضع حد لتدمير الموارد الطبيعية بدرجة تهدد مستقبل الإنسانية.

خاتمة
من سمات المشهد اليساري الانقسام الأممي بين المشاريع الماركسية الحمراء والخضراء. لم أعرف أي تصنيف أغبى من هذا التصنيف. إذ لا يقوم التحديد على الألوان التي تكتسيها الطبيعة خارج الصراع من أجل نظام بديل.كما أن الماركسية نفسها ليست نظرية حمراء لطابعها الثوري.فالثورة ليست سوى الوسيلة الممكنة الوحيدة لبلوغ مجتمع الكرامة المشتركة بين الجنس البشري. المجتمع الذي تسود فيه العدالة الاقتصادية والاجتماعية كما يسود فيها السلم والسلام والحرية والمناظر الطبيعية السليمة في كوكب سليم. بحيث لا يهدد حياة الإنسان لا عامل الاستغلال ولا الكوارث الطبيعية. وبهذا المعنى عبر ماركس في قولته، وهو يصحح علاقة ملاكي الأراضي بالأرض، ويعدُّها علاقة استغلال فقط، وأن ملاكي الأرض مجرد (مستفيدين منها، وعليهم توريثها بحالة جيدة إلى الأجيال القادمة، كما يفعل الآباء لأطفالهم).
الغباء الثاني هو عندما تطلب الأحزاب الاشتراكية (الخضراء) من الأنظمة الليبرالية المتوحشة أن تصبح صديقة للبيئة؟ والحال أن مظهراً واضحاً من همجيتها لا يقوم سوى على تدمير هذه البيئة.الأمر يبدو كمن يطلب من السمك أن يعيش خارج الماء.فالطابع الهمجي شرط وجود النظام الرأسمالي وليس العكس. لكن البديل الوحيد هو الانتقال الثوري إلى نموذج جديد يستطيع فيه الناس (كل الناس) المشاركة في تقرير مصير الإنسانية ومصير كوكب الأرض أيضاً.
فهذا الطرح ليس طرحاً مبتذلاً للماركسية، بل هو طرح برجوازي لا يراد منه سوى الحفاظ على الطابع الاستغلالي للإنسان كفرد وكطبقة.
لكن بالمقابل أيضاً ليس للاشتراكية أي لون وأي مضمون إذا هي لم تكن لصالح توريث كوكب الأرض سالماً للأجيال التي من أجلها تناضل بإصرار. لكن ليس من اللازم ولا ينبغي أن يكون كذلك أيضاً أن تتنازل عن لونها الأحمر ومضمونها الثوري، لصالح مضامين ومرجعيات إصلاحية عوض أن تسعى إلى اقتلاع النظام الرأسمالي لأنه يجر البشرية إلى حتفها السريع.تطالبه أن يكون صديقاً للبيئة. إلا إذا كانوا يقصدون بذلك الصداقة التي تجمع الذئب بالغنم.

نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)

المراجع
5  سمير أمين. (في نقد الخطاب العربي الراهن)
6  سمير أمين. (عودة لمسألة الانتقال الاشتراكي) في فعاليات المنتدى اللااجتماعي.دكار. السنغال. 2011

العدد 1104 - 24/4/2024