سرديات لرواية ممكنةأو هوامش لزمن قادم

للرحلة المتصلة  المنفصلة، مسارات تراجيدية في جغرافيا طليقة، سوى من حدود (سايكس بيكو) الملعونة والمذمومة، أعني رحلة الفلسطيني من وطنه إلى أقرب ما يمكِّنه من العودة سريعاً، فقط ما حمله  الفلسطيني  مفتاح بيته وأوراق بيته هناك.. والكثير من ذاكرته الحية وفائض أحلامه.. كنت أقول لوالدي  متندراً: صف لي المشهد الذي قد أكون رأيت مثيلاً له على الأرجح في العمل الدرامي اللافت (التغريبة الفلسطينية)!

تحايلاً على إجابة محتملة قال لي: انظر في التغريبة وستعرف.. لكن الصورة الافتراضية المثقلة بزخم التخييل الضروري لم تكن بقوة ما رأيته في صباح المخيم، ليست كثافة الخروج، بل كثافة الألم والرعب والذهول، وأبي الذي لم يعثر على حذائه وخرج حافياً، ظل يردد: هل رأيتها يا ولد؟ عشت لتراها بأكثر مما رأيتها أنا، لا تلتفت يا ولد، هنا رصاص طائش، هناك زجاج يملأ الأرض، امضِ هي نكبتك الآن.

 لم أعد قادراً على أن أقول كنت أمزح وأتندر، صارت المزحة جدية بما يفيض على احتمال الوجوه المذعورة والأقدام التي داست ذلك الزجاج المتناثر في الطرق. وصاح طفل داخلي: هل كان ضرورياً أن تسأل؟ فبعض السؤال جواب، ففي قلبك سوسنة المحنة التي (يهوي سبعين ألف نجم ليلمس دمك المستحيل).

 أواسي اللغة بقليل من الهمس والسؤال: هل التهمت السنابك من قبل قرطبة؟!

 وكأن لا شيء يشغل بال ومستقبل (الجماهير) سوى برنامج (the voice)  أحلى صوت  الذي تبثه ال MBC سعياً لانتخاب أحلى صوت من متسابقين يتبارون في مواهبهم أمام نخبة في الغناء في الوطن العربي. وهكذا يحمل كل أسبوع تنافساً على الوصول إلى ذلك الشرف العظيم. ولم لا؟ نحن نحب الحياة والجمال، ولا بأس في أن تدمى أصابعنا لتلتقط وردة، لعل شوكها يكون برداً وسلاماً، وقد ينسينا الغناء لبعض الوقت آلام الرغيف وبطولات دون كيشوت للحصول عليه والفوز لأصابعنا بحرارته الساحرة. وقد يدفئ الغناء مفاصلنا التي تئن تحت سياط البرد ووحوش براريه، وقد يحلّق بنا لذرا الخيال بعيداً عن واقع لا تحتمل خفته. ولمَ إضاعة الوقت في اللهاث وسجال تجار الغاز الذين يخلطونه بالماء إذا لزمت الحاجة، والذين يستدعون الثراء بأثر رجعي؟ وقد يأخذنا الغناء بعيداً عن الأرض إلى سماء عامرة بالنجوم، حيث نتسلق خيوط المطر وننظر من علٍ إلى مايحدث في الأرض، ونضحك: نحن من كوكب آخر.

 لكن اللافت، أنه في نهاية الموسم الأول (لأحلى صوت) ما قاله نجم عربي تعليقاً على الموسم، قبيل إعلان النتيجة النهائية: (لم نقدر على أن نمسح دموع الأطفال).

 الأكثر مبيعاً، عبارة تتواتر على الدوام على خلفية، أو على هامش، معارض الكتب العربية أو العالمية على حد سواء. فمثلاً تفيد الإحصائية النهائية لمبيعات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب ال ،56 بلائحة شهية للكتب الأكثر مبيعاً، ومعها يمكن استقراء المزاج القرائي، بل ميول القراء واتجاهاتهم. وهنا لاحاجة لمنهج نفسي أو سواه، ليضيء لنا تلك الحاجات الإنسانية الأساسية، لاسيما إذا عرفنا أن عنوانين لافتين تصدّرا حقل الفكر والفلسفة هما: (التفكير الذي لايقهر) لمؤلفه ريهوا أوكاوا، و(كيفما فكرت فكر العكس) لبول أردن.

ما يعني غياب كتب التراجم لبعض الوقت، أو كتب الاتجاهات الفلسفية عن الأفق القرائي. يبدو أن كتباً تتعلق بالدعم النفسي أصبحت إبداع العصر. لقد فض الاشتباك بين الأصالة والحداثة، واستراحت النظريات في متون كتبها، وما يدهش في هذا السياق أن تحجب جائزة الإبداع الروائي عن مسابقة عربية، بذريعة أنه لم يتقدم مبدعون، بما يشكل علامات فارقة في إبداع رواية جديدة، وربما تورية خطابية لأعمال لم تحقق شروطاً ومعايير إبداعية ونقدية. فهل نضبت المخيلة؟ وهل استنفدت أدوات المبدع العربي؟ أم ثمة من رأوا أنهم ربما يكتبون في زمن آخر، أو أن ما يقولونه إنما يمرون به؟

 ما زال أكبر فرسان التراجيديا هو الواقع، خلافاً لما يذهب إليه حالم من أنه الشاعر، والشاعر مازال يتوسل الواقع أن يعيد إليه طرائده الجميلة، صوراً، وتراكيب، كلما (ركَّبها) تشظت أمامه وأصبحت كرواغ المصابيح!

 أحدهم كتب هاجسه بشيء من الشجاعة، إذ يقول بما يشبه الاعتراف: (أنا شخصياً وجدت الحل في الخدمة في بيوت الناس، عند أساتذتي وكبار المخرجين، أنظِّف البيت، أمسح البلاط، وأستخدم المكنسة الكهربائية وجهاز غسيل الصحون، دون أن تخاف صاحبة البيت من سوء الاستعمال لأني متعلم ومثقف).

أحمد علي هلال

العدد 1107 - 22/5/2024