استبعاداً لعار الأبد ولعنة التاريخ!

عندما يكون الصراع بين الوطن واللاوطن، بين الوطن المعافى والوطن المدمر، بين الوطن العزيز والوطن المستعبد المسحوق، بين الوطن وعدو الوطن، تسقط الخيارات.

أنا ضد الاستبداد، لكني قبل ذلك ضد الاستعمار أيضاً، ولا أتخيل أن من يهرب من الاستبداد، يمكن أن يكون هروبه إلى الاستعمار. في الاستبداد وطن معوق، أما في الاستعمار فلا وطن. الاستعمار لا يترك لك وطناً، قد يترك أشلاء وطن. قاطع الطريق يطلب المال أو الحياة، أما الاستعمار فيطلب المال والكيان والكرامة وكل شيء.

أكون (مستقلاً جداً) حين يكون الخيار بين كتل سياسية وطنية مختلفة، كما يطلب العقل من مثقف يرصد وينقد. لكن لست مستقلاً بين الوطني وغير الوطني، بين الوطني والأجنبي.

لا يقولَنَّ لي ذلك الذي أخذ الحراك باتجاه العنف، إنه يبحث عن الحرية والديمقراطية، فهما تقطعان مع العنف ولا توجدان تحت أشلاء الوطن وجثث المواطنين. العنف يجلب العنف، ولا أدري كيف يجلب العنف ديمقراطية؟

لقد فرحنا وعادت إلينا قلوبنا حين وجدنا شعوب بلداننا العربية تستعيد حيويتها، وتبادر إلى إنجاز خياراتها الثورية، لكننا حصدنا المرارة الأولى عندما اتجه الحراك إلى العنف. من يستسهل العنف ضد من يعارضهم، غداً يستسهله ضد من يعارضونه إذا تمكن، فالأمر واحد. الذي يذهب إلى السلاح أيا كان، هو عدو، وليس مواطناً أو معارضاً. ومثلما أرفض العنف ممن يعارض نظام بلده سياسياً، فبالمعنى ذاته أرفض الإجابة العنيفة على طلبات المواطنين.

في نادرة شعبية أن امرأة سألت الضبع إن كان قد رأى ابنها المفقود؟ فأجاب الضبع: نعم، قالت: وأين هو؟ قال: أكلته!

إذا كان خيار طرف ما، هو دفع الوطن بين أنياب الوحش، فكيف يطلب مني أن أنحاز إليه؟ وأي مستقبل يبشر به؟ وأي إنقاذ للوطن يكون ذلك؟ وأي ضمان ألا يأكل الوحش الوطن؟!

فيالهوان الوطن المأكول!

وكي لا ندفع أوطاننا إلى فكّي الوحش بعد تجارب مريرة حصدنا نتائجها، كتبت كتاباً عام 2008 بعنوان (الليبراليون العرب واستحقاق الحرية) ونشر الكتاب، وحاضرت في الموضوع مراراً. وقبل أن يفهم أي شيء خطأ، فأنا تحدثت عن ليبراليين لا عن الليبراليين جميعاً، ولم أنس مساهمة هؤلاء في تحرير أوطاننا من الاستعمار سابقاً، لكن ما فعله أحفاد هؤلاء من مساهمة في التهويش على العراق كانت هي المقصودة.

من أبرز ما تناوله الكتاب مناقشة أفكار مجموعة من الكتاب العرب، ممن ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية (وربما كانت بريئة منهم)، أولئك الذين جاهروا بدعوة الأجنبي (الولايات المتحدة في الغالب) ليأتي بجيوشه وقوته العسكرية المدمرة لتخليص أوطانهم من حكامها الذين لا يرضون عنهم. وكان من بين هؤلاء الذين ناقشت أفكارهم: راغدة درغام، سعد الدين إبراهيم، كمال اللبواني، شاكر النابلسي وغيرهم، ممن أظهروا تبعية للأجنبي.

كانت الوليمة أيام ذاك هي العراق الذي يثير الشهية، لكن هؤلاء لم يروا أن ما حصل للعراق فتركه وطناً مدمراً اقتصادياً وسياسياً وعمرانياً ووطنياً، والأهم اجتماعياً، يدخل في باب الجرائم الكبرى في التاريخ، وأنه يمكن أن يطبق عليه مبدأ (أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض). هم رأوا أن الحكم سقط ويستطيعون مع من وراءهم اقتسام الغنائم. وإذا كانت أنظمة الحكم تستحق أن تسقط، فعلى الأقل ليس بالعنف وليس بيد الأجنبي، لأن السقوط عندئذ يكون سقوط وطن. ولم تنفع مشاعر الندم التي أبداها بعضهم ممن انخرطوا في همروجة هذا الفعل الشنيع والدعوات المشبوهة، بعد أن ساهموا في دمار أوطانهم. في حين يرى آخرون أنهم حققوا النصر على الطغيان.

هذا التيار كان ولا يزال يبشر بهذا النهج، وكان هذا معنى التحذير الذي أطلقه سعد الدين إبراهيم رئيس معهد ابن خلدون في القاهرة، وأحد المرتبطين بالخارج وتمويله، فقد أشار على صفحات جريدة (الحياة) بتاريخ 13/8/2003 أن ما رأيناه في أفغانستان والعراق (ليس سوى قطرات من الغضب الأمريكي)، وقد لاقى ذلك استجابات وانخراطاً في التحذير من عدم الانصياع لإرادة الولايات المتحدة، تجنباً لما يشبه ما حل بأفغانستان والعراق، وسارع الرئيس اليمني حينذاك إلى التحذير: احلقوا ذقونكم قبل أن تحلقها لكم الولايات المتحدة. ومع ذلك لم يفده ذلك الانخراط.

التخويف مما يمكن أن يفعله الغرب بنا، بلغ أشده في كلام شاكر النابلسي، الذي نشر كتاب: (الليبراليون الجدد- جدل فكري) المتضمن مقالات له ومناقشات دارت حولها. فقد رأى أن الولايات المتحدة كانت رحيمة بأعدائها الأفغان عندما لم تقصفهم بالقنابل الذرية عقب الاعتداء على برجَيْ مركز التجارة العالمية، وقد أشار إلى أنه لو كان الجمهوريون هم الحاكمين، لفعلوا ذلك. إذن فالمطلوب أن نُسبِّح بحمد الولايات المتحدة ونشكرها على فيض حنانها وإنسانيتها، لأنها لم تستخدم القنابل الذرية لإبادة الأفغان، وفي ذلك تحذير مفاده: إياكم أن تعادوا أو تعاندوا الولايات المتحدة!

عندما ألفت الكتاب المشار إليه، لم أكن أتخيل ولو للحظة أن ما حصل للعراق يمكن أن يتكرر، لوضوح عوار الاستدلالات التي قام عليها، وأن ذلك يمكن أن يدفعني للكتابة ثانية، لأن خطراً يحيق بنا وباستدلالات تصطنع ثم يبنى عليها كما حصل في ليبيا. وإذا كانت دعوى بعض السوريين للولايات المتحدة أو الغرب عموماً لإسقاط الحكم في سورية على الطريقة العراقية واعتبار ذلك مكملاً للمشروع الغربي، كما ظهر فيما كتبه كمال اللبواني آنذاك، لم تنجح حينذاك، وظننا أنه كان لحظة انفعال أو أمنيات عابرة، فقد ظهر الآن أنه كان مخططاً ينتظر أصحابه اللحظة المناسبة.

إن فيما جرى في العراق وللعراق عبرة لمن يعتبر أو يريد، وتخيلت أن أحداً ما، يتمتع ولو بقدر ضئيل من العقلانية والوطنية، لا يمكنه أن يفكر، بالعودة إلى ما فعله الذين طالبوا الغرب بضرب بلادهم. ولقد كنت وما أزال مقتنعاً أن الولايات المتحدة ومن تجره في ركابها إلى هذه الأعمال الإجرامية، لا تقيم اعتباراً لهؤلاء الذين يدعونها، أكثر من أن يكونوا جزءاً من الغطاء لعدوانيتها وتوحشها. وأجزم أنها تنظر إليهم باحتقار، أي النظرة إلى كل من يفقد وطنيته أو يخون وطنه. وإذا كانت تجد في نفسها الشهية لضرب سورية، وتخطط لذلك من خلال إيجاد الغطاء الإعلامي والسياسي والأخلاقي لما هو غير أخلاقي، فإن ذلك ليس استجابة لهؤلاء ودعواتهم، بل استكمالاً لمخططاتها وعدوانيتها وإرادتها في تصنيع العالم كما تريد، فمضمون الفوضى الخلاقة يستدعي إثارتها من جانب من يحسن إدارتها واستثمارها لمصلحته حين تحدث.

لقد عبّرتُ كثيراً عن قناعتي بأن  الولايات المتحدة والغرب عموماً لا يتدخلون في سورية عسكرياً ما داموا يرون أن سورية تحطم نفسها بنفسها، ومساهمتهم تكون بالإمداد بالمال والسلاح والدعم السياسي والمعنوي لمن يخربون بلادهم. وإذا كانت ستتدخل عسكرياً فلأنها تجد أن الدمار الذي حل بسورية لا يُرضي تطلعاتها، فهي تريد الآخرين محطمين ومجردين من أي مصدر قوة ومقاومة يمنع ابتلاعهم.

إذا كان هناك من مؤامرة مزعومة فهي تلك التي بدأت منذ قرن من الزمن، بالتالي لم تعد مؤامرة لأنها أصبحت منذ زمن طويل مكشوفة معروفة الأبعاد. فهي مخططات ظهرت نماذجها في العراق وليبيا والسودان وغيرها، وهي استمرار علني لما أعلن من وراثة الاستعمار الغربي لتركة الاستعمار التركي الذي ظننا أننا تحررنا منه، فإذا بنا ننتقل من شكل من أشكاله إلى آخر ملون بلون العصر ومكشوف من الجميع، وبعضنا يصر أنه مؤامرة سرية، حتى والصواريخ تنهال علينا، وأبناء جلدتنا يشاركون في ذلك.

ليست مؤامرة لأنها معلنة واضحة في جميع سياقاتها، والجزء الأكبر من الإشكالية ليس عند الولايات المتحدة والغرب عموماً، فما يريده هؤلاء معروف، ولا يجهله إلا المتجاهل والعاجز عن قراءة المعطيات، وقد كتب عنه الكثير. لكن عدم قدرتنا على تحقيق التقدم الكافي لبلداننا، وغياب الديمقراطية والحداثة والمواطنية وحقوق الإنسان بالمعايير العالمية والحكم الصالح التداولي وفصل السلطات وانتشار الفساد وتغول الاستبداد والقوى الأمنية، هي أبرز مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية في بلادنا العربية، وعليها ينتعش الغضب، والمسؤولية عنها على الداخل ومن تصدَّوْا لحمل مسؤولية الحكم، وليست على الخارج الذي لم نعرف كيف نستبعده. هنا نبدو جميعاً متآمرين.

إن دعوة الأجنبي لضرب الوطن تحت أية حجة، هي من المحرمات، وأشد الجرائم والموبقات، حتى إن طيب تيزيني قد شبهها بما فعله أبورغال الذي كان دليل أبرهة الحبشي لضرب الكعبة، كما ذكر في مقالة نشرتها جريدة (الأسبوع الأدبي) العدد 1081/ 24/11/2003. ومع أن أبرهة كان سيهاجم الكعبة بدليل أو من دونه، فقد بقي عار الأبد ولعنة التاريخ على أبي رغال، ولا أظن غيره سيحصد أكثر مما حصد.

الاستدلال على بشاعة النتيجة فيما لو ضرب الغرب سورية عسكرياً، يتحقق بالنظر إلى ما حدث في العراق وليبيا. بل إن ما يحلم الغرب أن يقع في سورية هو أشد هولاً كرمى لعيون إسرائيل التي هي المحرك للسياسة العالمية في هذا المجال. وما يجعلني أستشعر ذلك هو أن العراق كان قد أضعف سابقاً ودمر لعدة سنوات، وخطره على إسرائيل أقل بكثير، ولم يبق له من قدرة جدية على مقاومة هجوم غربي بهذا الحجم، والتهم الموجهة له بحيازة أسلحة الدمار الشامل واضحة البطلان. بالتالي فإن الاصطفافات العالمية آنذاك وموازين القوى وموقع العراق كان يحيل إلى ماحدث، وهو ما كان مدروساً جيداً، إذ أعيد العراق أجيالاً إلى الوراء، ودمرت طاقاته، وتم العمل على تصفية العقول العلمية فيه، مما يشير إلى أصابع الصهيونية، والأهم من ذلك هو ما لحق بلحمته الاجتماعية من تخريب.

عند المقايسة والتوقع، يبدو الوضع في سورية أكثر تعقيداً من الناحيتين الجيوسياسية والجيوبولتيكية. والحقد على سورية أكبر، وقدراتها العسكرية التي تحتفظ بها تحتاج إلى أضعاف ما حل بالعراق الذي كان قد جرد من معظم قدرته، وما يبيت لسورية له علاقة بالوضع الدولي والإقليمي الذي يجعل المنطقة خامدة لسنوات قادمة فيما لو دمرت طاقات سورية ولحمتها الاجتماعية.

أقول ذلك وأنا شديد الإلحاح على المطالبة بالديمقراطية والحرية والتعددية وكل معاني ومفردات الحداثة والدولة المدنية العلمانية، واستبعاد التعبيرات الدينية في السياسة، وإسقاط كل أشكال الاستبداد والتسلط والشمولية. وكل ذلك يتطلب النضال الفكري والسياسي والوطني الذي يعتمد الأساليب العقلانية، ويقطع مع كل أشكال العنف المرفوض من أية جهة حصل.

لكن كبرى الموبقات والجرائم الوطنية التي تقطع مع العقل والعقلانية والوطن والوطنية والإنسان والإنسانية، هي دعوة الأجنبي لضرب الوطن من أجل مكسب ما، أياً كان شكله، سياسياً كان أو غير سياسي، ومهما فشلنا في الحصول عليه بالنضال السياسي، فلن نحصل عليه عن طريق أعدائنا في الغرب. وإذا كنا لا نستطيع الحصول على أهدافنا بالنضال السلمي فلا تليق بنا الحداثة، ويجب أن نتعلم أنه ليس كل الناس يحصلون على كل ما يريدون إلا بتكرار الفعل.

من كان عاجزاً عن تغيير الوجه السياسي في بلاده، فهل سيكون قادراً على تغيير بقية الوجوه التي تحتاج إلى تغيير؟ وإذا كانت الاستعانة بقوة الأجنبي العسكرية لتغيير نظام الحكم، فهل ستكون هذه القوة جاهزة لتغيير وجوه الحياة التي تنتظر جهود المواطنين؟ وبأي ثمن؟

العدد 1104 - 24/4/2024