التغيير ما بين رحى استبداد النظم العربية وعجلة التاريخ

إنَّ من بشَّرَ بنهاية التاريخ قد فقد مصداقيته، ومن نوى حجر الشعوب ما بين رحى النظم الاستبدادية وعجلة التاريخ وقد خابت نيته. فها هو ذا التاريخ مسور بالقرن الحادي والعشرين ما بعد الميلاد، وها هي ذي الشعوب قد خرجت من قمقمها ولن تعود! والجميع يطرق أبواب الفاجعة، فمن يُرد النجاة ويتحاش اللعنة، فما عليه إلا أن يفتح الباب على مصراعيه قافزاً على خوفه، ليدخل الشمس ويضيء الزوايا المظلمة ويطهرها من سوداويتها.

وأعجب، في هذه المعمعة وفي هذا الفضاء المعرفي الواسع، ممن (يحوقل ويرجع) وينفخ على مصباح الكهرباء كي يطفئه، وممن يحملق حملقة البليد غير المكترث بما يجري وما سيحل، متجاهلاً أو متناسياً.

التاريخ لا كوابح له، يسير حثيث الخطا، لا يرحم من يتأخر عن ركبه، شدّ قطارُهُ (التغييري) رحاله لولوج حقبة من حقبه المريبة، وبرغم تنوع عرباته وتعددها إلا أن جميع من فيها ينشد رئة تسمح لهواء نظيف خال من السموم الفكرية والاجتماعية والصحية من على هذا الكوكب الذي يراد منه أن يكون نظيفاً كما في بدء الخليقة عليه. ويتطلب ذلك ثورة على الجوْر، والخلل القائم تدق أبوابه الخضر بأيد بيض، خلافاً للبيت الشعري الشهير:

 وللحريةِ الحمراءِ بابٌ

بكلِّ يدِ مضرجةٍ يُدَقُّ

فأي عربة استقلتها الأنظمة العربية المتباينة الوجهات للخروج من تاريخها النفق المظلم المثقل بالنكبات والكوارث والمآسي؟ تلك الأنظمة التي مارست الاستبداد والقمع على شعوبها، فأفرغتها من إمكان التعبير السياسي، وغرست في عقولها النعرات القبلية العشائرية والدينية المذهبية، ودفعتها إلى خنادق الأصولية والطائفية لتتحارب، بغية الحفاظ على عروشها القائمة على جماجم وأطراف تلك الشعوب المسحوقة المحرومة من أبسط حقوقها الإنسانية. لقد حدَّثت تلك الأنظمة شعوبها عن المعارك والتحرير، فلم تخض إلا الحروب الأهلية والعربية العربية، ولم تحرر إلا بعضهم من بعض، وحدثوهم عن الازدهار والعزة فلم ينفثوا إلا الفقر في أجسادهم الهزيلة، ولم يطفئوا إلا جذوة النخوة والكرامة البشرية فيهم. إن حكام العرب نخبها السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية بممارساتها تلك التي لم تنشئ سلطة بمعنى السلطة، بل كانت سيطرة على الشعوب وإخضاعها عنوة، وهذا ما لا يمكن تسميته بسلطة شرعية، فأنشأت بذلك أزمة الثقة في كل المجالات ما بين الأنظمة والشعوب.

فلا بأس بحكام العرب أن يبحثوا بجدية قضايا ومستقبل شعوبهم العربية والشعوب المتعايشة معها عبر التاريخ، وعلى أرضها التاريخية. وهم لا شك باتوا يدركون الأخطار المحدقة بهم وببلادهم. وإذا تجاهلوا ذلك أو تناسوه، فما عليهم إلا أن يتعاملوا بعقلانية مع واقعهم المأزوم والتخلص من براثن ماضيهم المظلم والضيِّق الأفق والنزعات السلطوية بسلسلة من المبادرات على طريق الحرية والديمقراطية العادلة اللتين تراعيان مصلحة الوطن وحقوق المواطنة. وبحديثي هذا لا أنكر التجارب الآيلة إلى الديمقراطية ذات الهوامش الضيقة والمتفاوتة من الحرية السياسية المغلقة، بل أحفز على تشجيع الديمقراطية الفكرية والثقافية والسياسية، والسعي لجعل التعليم والقضاء والإعلام ومؤسسات وطنية ومستقلة عن النظام السياسي.

إلا أن الجليَّ والبادي للعيان من هذه الأنظمة حتى اللحظة، قد طغى على مسامع حكامها أزيز الرصاص ودوي المدافع وهدير الطائرات في الحروب الأهلية والعربية العربية المفتعلة والمصطنعة بالتعاون مع الدوائر الإمبريالية والصهيونية العالمية، فمنعت وصول صفارة الإنذار إلى مواطنيها، أو ربما حشوا آذانهم بثرواتهم الخاصة وممتلكاتهم التي لا تأكلها النار، أو ربما تروق لها ذلك لتحافظ على تيجانها.

لقد أوهمت هذه الأنظمة شعوبها بالحرية والديمقراطية برتق عباءة صحراوية لتاريخ لا تاريخ له، وتماهت سيرورتها الدولة والمجتمع، رغم وجود التمايز الموضوعي بين قيادة الأنظمة تلك لدولها وبين ما يجب أن تمارسه تجاه كينونة الدولة الحديثة وبنية المجتمع المعاصر، مما جعل المجتمعات تصاب باحتقان مظاهرة واضحة بدءاً من الاستهلاكات المبتذلة والتظاهرات الاحتفالية، فأوصلت الجماهير إلى يأس قبل الوصول إلى مشارف الحرية والديمقراطية، وجعلتهم يفقدون القدرة على التفكير بما يجري حولهم وفي العالم من متغيرات. فالأجدر بالأنظمة العربية مواكبة ما يجري، وعليهم أن يتعاملوا مع مجتمع مستقر ولا يتم ذلك إلا بتجذير الديمقراطية الشعبية العادلة. ولا ديمقراطية إلا بتحديث الثقافة وتجذيرها في العمل السياسي والمجتمع المدني الذي ينبذ النخبوية والشمولية والفردية المطلقة، اللاتي وسَّعن الهوة بين المسماة بالطليعة. القيادية للمجتمع والمجتمع نفسه. وذلك لخطأ تاريخي وقعت فيه تلك التي سمت نفسها بالنخبة الطليعية، يتلخص في تقديرها وتكهنها عندما ارتأت نظرتها القاصرة أن ترى المجتمع ظالماً، بينما هو في الحقيقة مظلوم، واعتقدت وأقصد النخبة (أن الجماهير جاهلة وظلامية ولا تفهم) بينما الحقيقة هي أن النخبة تلك لا تفهم مجتمعاتها وتتعالى عليها، ولذلك تبقى المجتمعات معزولة عنها. فبدلاً من اعتمادها (أي النخبة الحاكمة) على الجماهير المنتجة، الاقتصادية منها والفكرية كقوة ناهضة للتغيير، اعتمدت على قوة متميزة عن بنية المجتمع فجاء التغيير عبارة عن إقناع وتخدير للذات والأنا الضيقة. وهذه هي ثمار الحوار ما بين الأنا والذات وإقصاء الآخر الشريك وقمعه، فبقي المجتمع خارج مسيرة التاريخ وما زال. ولتفادي لعنة التاريخ وغضبه لا بد من البحث عن نقاط التقاطع بين المجتمع المظلوم وقواه الطليعة الظالمة، على أن تتبوأ هذه المهمة الفئات المثقفة الناطقة بلسان الجماهير والمندمجة عضوياً وروحياً بهموم واهتمامات أوسع فئات المجتمع.

غير أنه من الواضح في الواقع الراهن، أن الحقيقة لا تروق لكثير من الأنظمة والنخب الحاكمة، لأن التغييرات وفق الضرورة التاريخية لا تنسجم ومصالحهم وطموحاتهم، لذلك يمارسون الاستبداد والقمع على مجتمعاتهم القاعدية تحت ذرائع وحجج واهية. قالوا كنا مستعمرين فقدرناهم وعذرنا بقاءهم خارج دائرة التاريخ الصحيح. أما أن يقولوا: نحن تعاني آثار الاستعمار ومخلفاته، فلا عذر لهم، لأن أغلبهم من تلك المخلفات. وبذلك وضعوا أنفسهم على هامش التاريخ وغبنوا حق أنفسهم وغبنوا حق مجتمعاتهم. ما الذي جعلهم خارج التاريخ أو على هامشه؟ لأنهم استهلكوا أكثر مما زرعوا، واستوردوا أكثر مما أنتجوا، وملكوا من العلم والتطور أقل مما كانوا يحلمون به، و…

وخلاصة قولي: إننا اليوم بحاجة إلى سلطات ونخب ديمقراطية تتقبل الآخر، وتؤمن بالتغيير، وتستعد له، وتلبي استحقاقات المرحلة الراهنة واحتياجات وطموحات شعوبها التي ساهمت بأرواحها ودمائها وقوت يومها من أجل تحرير أوطانها من الاستعمار الغربي البغيض، ومن أجل صون كرامتها ونهضة أوطانها، لا من أجل أن تستبدل مستبداً بمستبدٍ، وقهراً بقهرٍ، إنها تنشد حقوقها الطبيعية التي تمنحها الأمن والحرية والاكتفاء الذاتي.

العدد 1104 - 24/4/2024