تشومسكي: تأملات في الصهيونية وتشابكاتها الإمبريالية الولايات المتحدة توافق على ضم الأرض وحشر الفلسطينيين في معازل

في محيطنا، نحن الذين انشغلنا بمناهضة حرب فيتنام، لم نعبأ بالاحتلال، لم نر في الاحتلال واقعاً مستداماً. ولو أتيح الدخول إلى محاضر جلسات مجلس وزراء إسرائيل في ذلك الحين لبدا الأمر وكأنهم ينوون الانسحاب. وحتى عام 1971 كان موقف الخارجية الأمريكية أن على إسرائيل الانسحاب من المناطق المحتلة مع إدخال (تعديلات بسيطة وطبيعية) على خطوط وقف النار. في بداية السبعينيات فتح الطريق للخيار الفيدرالي. كان ثمة طريق آخر، الضغط على إسرائيل من أجل إقامة فيدرالية بفلسطين، لكن تغيراً نوعياً حدث بعد ذلك.

علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل حققت قفزة بعد انتصار إسرائيل العسكري عام،1967 الذي اعتبرته النخبة الأمريكية على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة. انتصار إسرائيل في حرب حزيران مس عصباً حساساً لدى المثقفين اللبراليين في الولايات المتحدة، فرحبوا به كثيراً، نزل هبة من الرب، لأنه في نهاية المطاف جاء مَن أبلغ العالم كيف ينبغي التعامل مع محدثي النعمة في العالم الثالث.. فجأة تولد حب غامر لدى المثقفين تجاه إسرائيل، وبات أشخاص محايدون إزاء الصهيونية من قبل، أمثال اللبراليين نورمان بودهوريتز وإيرفينغ هاو، صهاينة متعصبين بعد  1967.

ويعود هذا جزئياً إلى أن التحالف الأمريكي  الإسرائيلي قد ازداد متانة، بحيث غدا ممكناً أن تدعم الحكومة الأمريكية وتبدو في موقف إنساني في الوقت نفسه. بمقدورك دعم العنف والإرهاب وتظل نبيلاً وإنسانياً تدافع عن اليهود ضد اللاسامية وإبادة الجنس.

لتجنب الانسحاب استحضرت إسرائيل، بعد عام ،1967 حدثاً هاماً جداً: برزت من جديد حكاية المحرقة، وباتت قضية تشغل الرأي العام. بعد ،1967 وخاصة بعد 1973 أقيم متحف للمحرقة في كل مدينة، وأدخلت المحرقة في برامج الدراسة. بالطبع عرف الناس بأمرها من قبل، لكنها لم تكن قضية عامة. تجنبها اليهود في  الولايات المتحدة وودوا الاندماج بالمجتمع الأمريكي وتحسين العلاقات مع ألمانيا. لم تعد إسرائيل تهمنا كثيراً، ولننس كل هذه الأمور.

المحررون من معسكرات الاعتقال بقوا داخل معسكرات لا تختلف عن سابقاتها ضمن ظروف مزرية، ماعدا غياب غرف الغاز. عهد إلى مبعوثي الحركة الصهيونية مهمة الإشراف على نزلاء معسكرات الاعتقال، ونعرف الآن ما لم يعرف في حينه، وهو أن المبعوثين نظموا إرسال المقتدرين إلى فلسطين، ويعني ذلك أن يكونوا طعاماً للمدافع.

فجأة غدا إحياء ذكرى المحرقة موضوع النظام الثقافي بأجمعه ( التعليمي بالطبع)، الأمر الذي يعني أنه من الآن فصاعداً كل ما نقوم به ينطلق من ضرورة تجنب الإبادة النازية. وبصورة آلية يخرس هذا كل تساؤل جاد لما تقوم به إسرائيل. ونحو العام 1970 كتب أبا إيبان في مجلة الكونغرس اليهودي الأمريكي ( كونغرس ويكلي ) يقول: إن المهمة الملقاة على عاتق اليهود في الولايات المتحدة هي البرهنة على أن العداء للصهيونية  وهو ما يعني حقاً معارضة سياسات الحكومة الإسرائيلية  إما أن يدخل في إطار اللاسامية أو كراهية الذات بالنسبة لليهود. وقدمني مثالاً لما يقول.

هكذا اتخذ الموقف الأمريكي من إسرائيل قناعاً ملائكياً، إنقاذ ضحايا النازية من الدمار على أيدي العرب! ولهذا انطوى إحياء المحرقة على قدر عظيم من الأهمية، إذ قدم السياق الذي يتوجب على الأمريكيين التفكير بين ضفتيه حيال ما يدور بين العرب وإسرائيل.

ومنذ زمن جد طويل ظلت المناقشة أو المحاضرة في هذه القضية أمراً صعباً، لأنه يخلق الهياج الشديد أحياناً والعنف في بعض الأحايين.

أما في الوقت الراهن فقد تغير الأمر لعدة أسباب. الشباب الفلسطيني الدارس في الجامعات الأمريكية شرع حقاً في تنظيم فعالياته بطريقة مغايرة لما استنته م. ت. ف. وعلى قاعدة المبادئ الليبرالية عرضوا قضايا مثل الاضطهاد والاحتلال والعدوان، وبدؤوا يحصدون نجاحات في حملاتهم. حدث تغير درامي بعد العدوان على غزة، أقصد أن غزو غزة أثار غضب عدد كبير من الناس. فما أقدمت عليه إسرائيل خلال العقد الأخير يناقض قيم الليبرالية ويصعب على الشباب تحمله.

إسرائيل تواصل تعطيل التسوية السياسية. لنواصل تشييد المستوطنات، لكن بهدوء. وكما يقولون بالعبرية: (لا نود أن نقول للغوييم شيئاً، فنحن ننفذ مخططاتنا). وكما قال بن غوريون فالمهم (هو ما يفعله اليهود وليس ما يفكر به الغوييم).

وذلك ما يجري حالياً أمام أنظارنا. إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة تواصل بالضبط عمل ما يحلو لها في مجال الاستيطان. إنهم لا يحافظون على الأمر الواقع، بل ويوسعونه. ولا أرى أنه يتغير، ما لم تتغير السياسة الأمريكية. وفي مثال جنوب إفريقيا تغيرت السياسة الأمريكية أولاً، في عام 1988 أطلقت إدارة ريغان على المؤتمر الوطني الإفريقي صفة (إحدى أبشع المجموعات الإرهابية في العالم). ولم يخرج مانديلا إلا قبل سنوات قليلة من قائمة الإرهابيين العالميين، ولم يستطع زيارة الولايات المتحدة إلا في عام 2008. ولم تمض سوى فترة زمنية قصيرة على تغير السياسات الأمريكية حتى بدأ نظام الأبارتهايد ينهار. وخرج ما نديلا من سجنه بجزيرة روبنهود. لا نملك الوثائق، لكن يبدو أن دوائر البيزنيس في الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا أقرت أن أمورها ستتحسن إذا تم التخلص من نظام الأبارتهايد، مع الإبقاء على النسيج الاقتصادي الاجتماعي بتغييرات طفيفة، وهو ما حصل في جنوب إفريقيا.

النقطة المركزية أن لا بديل للنموذج الجنوب إفريقي، لا يمكن أن يتحقق تغيير في نهاية الأمر بغير أسلوب الضغط العام  المنظم والمستمر والصادق. كمية من العمل المضني.

القضية المحورية أن إسرائيل تواجه خيارين: إما تسوية الدولتين أو نظام الأبارتهايد. الإسرائيليون يريدون الأرض دون مشكلة ديمغرافية. يريدون بناء إسرائيل الكبرى ولا يعنيهم مصير الشعب الفلسطيني، والولايات المتحدة تدعمهم في ذلك. إسرائيل تمسك بنحو أربعين بالمائة من مساحة الضفة. هي ماضية صوب ضم كل الأراضي خلف جدار الضم والتوسع، ثم الغور الأوسط وتواصل بناء المستوطنات وإقامة نقاط التفتيش هنا وهناك، بحيث تبقي كانتونات معزولة للفلسطينيين.

بعد ذلك يحصرون الجماهير الفلسطينية في بانتوستانات كي يتعفنوا، بينما الإسرائيليون وأصدقاؤهم يتجولون عبر الطرق السريعة جاهلين تماماً أن العرب موجودون في الجوار، باستثناء ربما راع مع غنماته فوق تلة، المشهد المميز للعصور التوراتية القديمة. غير أن إسرائيل لا تحمل أدنى مسؤولية إزاءهم، وهذا ما يبدو واضحاً منذ عام 1967.

الأمر مختلف كثيراً عما كان في نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا.

هناك كان العمل ينهض على أكتاف قوة العمل السوداء. وبدونها يندثر، وكان السود يشكلون أغلبية ضخمة بين السكان. في الحقيقة لم تحاول جنوب إفريقيا تدمير البانتوستانات، حتى إنها حاولت جعلها قابلة للحياة، لأنهم بحاجة إلى الناس ومضطرون لحكمهم. لكن إسرائيل لا تريد الشعب الفلسطيني.

من جديد أقول لا أرى مخرجاً من المأزق ما لم تتغير سياسة الولايات المتحدة. وأخذا بالحسبان الإجماع الدولي على حل الدولتين وفقدان الدعم المعقول لأي خطوة تتخطى الواقع الراهن، فلن يكون التغير الأمريكي إلا في هذا الاتجاه إذا كان هناك احتمال لأي تحول.

لست معارضاً لمن يدعو لدولة ثنائية القومية، وأنا أعارض من يدعو لهذا البديل ولا ينادي به. والتمييز بارز بين التوجهين: إذ بمقدورك الدعوة لأي شيء تريده، أن نعيش بسلام ويحب بعضنا بعضاً. كل ذلك جميل، لكنه لا يعني شيئاً ملموساً ما لم تقدم خطة للانتقال مما نحن فيه إلى ذلك الهدف. والمناداة بعمل ما يعني بالملموس (هاهي الطريق التي نسلكها نحو الهدف). ولا أعرف غير شكل واحد فقط من المناداة في الوقت الراهن، أن نصل عبر مراحل.

العدد 1104 - 24/4/2024