نعوم تشومسكي: تأملات في الصهيونية وعلاقاتها بالسياسات الأمريكية

أجرى معين رباني، الباحث في مؤسسة الأبحاث الفلسطينية، والمحلل السياسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط مقابلتين مع نعوم تشومسكي: أولاهما في 12 أيار ،2009 والثانية في 21 تشرين الثاني 2010. تباعد المقابلتين وتكرار بعض الأسئلة لم يفقد نظرات تشومسكي تماسكها المنطقي مع نظرته الإنسانية كمثقف شمولي النظرة. في مقدمة نص الحوار يقدم معين رباني محاوره أبرز شخصية ثقافية لا تزال على قيد الحياة. التزم طوال حياته بعمق بقضايا حقوق الإنسان وبالكرامة الإنسانية. برز أولاً مناهضاً لحرب فييتنام، وكان قد التصق قبل ذلك بالصهيونية فكرة ثقافية مقطوعة الصلة بإنشاء الدولة. أعاد ارتباطه من موقف معارض بعد انتصار إسرائيل في حرب حزيران. حينذاك اتصل بإدوارد سعيد ونشأت بينهما علاقة تعاون حميمة، وذكره باسم التحبب (إد). في المرحلة اللاحقة اندمجت في رؤيته العريضة مسيرة الاحتلال بالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم، فباتت إسرائيل رهينة القرار الأمريكي بصدد الشرق الأوسط.

نظراً للفجوة الزمنية بين المقابلتين جاءت الأفكار كما عرضها المحاور رباني متناثرة بين الثنايا. قمت بإعادة تنظيم أفكار الموضوع الواحد في هذا العرض المترجم عن الإنجليزية.

وأبدأ بالموضوع الأول: كيف تجلت الصهيونية في بداياتها؟

 

قدم تشومسكي نفسه فقال: كان (والدي أحد أتباع أحد هعام، الذي نادى بصهيونية ثقافية تقصر مشروعها على إقامة مركز ثقافي يهودي بفلسطين، وتعارض إقامة الدولة اليهودية. كانت والدتي كذلك وكل الأصدقاء المحيطين. وفي عام 1947 حين صدر قرار التقسيم اعتبر القرار في أوساطنا تراجيديا محزنة).

في فترة الشباب عمل تشومسكي منظماً لمجموعات الشباب الصهيوني، التي لا تعدّ صهيونية وفق معايير الزمن الراهن، لأنها عارضت إقامة الدولة اليهودية. يقول تشومسكي: منذ الشباب المبكر التزمت بدولة اشتراكية ثنائية القومية.

حتى أوائل عقد الأربعينيات لم تحظ فكرة الدولة اليهودية بالتأييد الشعبي. ولم تبرز القضية جاذبة للأتباع إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. صحيفة (نيويورك تايمز) مثلاً كانت مملوكة ليهود، لكنها لم تكن صهيونية… وكان إيرفينغ هاو محرر مجلة (ديسينت) الليبرالية يزدري الحركة الصهيونية، عاداً إياها حركة قومية دينية أخرى. لم ير التقدميون ما يربطهم بالصهيونية، فكانت مجرد قضية. ونشر محرر مجلة (كومينتاري)، نورمان بودهوريست، كتاباً عن تاريخ حياته في أوائل عام ،1967 ونادراً ما ورد فيه ذكر إسرائيل.

من الناحية العملية لم تكن قضية الحب أمراً طارئاً، فقد وجدت في المجتمع الأمريكي من قبل. ولو رجعنا إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لرأينا صورة مماثلة. لم أعلم بهذا في حينه، غير أن الولايات المتحدة غرقت في الصهينة، إذ تجسد فيها مفهوم الوعود التوراتية بكامله. الرئيس وودرو ويلسون يقرأ الكتاب المقدس كل يوم، وكذلك الرئيس هاري ترومان. ووصف هارولد لاك، أحد المستشارين الرئيسيين للرئيس روزفلت عودة اليهود إلى فلسطين (أبرز حدث تاريخي عبر التاريخ). أعني أنه تيار عميق في الفكر الأمريكي والبريطاني. ومن الخطأ تجاهل ذلك.

يتوجب أن لا ننسى قيام علاقة طويلة الأمد بين المجتمع الأمريكي ولاهوت المسيحية الأصولية سبقت ظهور الصهيونية. هناك مقارنة الهنود الحمر بسكان فلسطين الكنعانيين، البرابرة ذوي الجلود الحمراء الذين حاولوا منع تقدم الحضارة واعتدوا على البيض الأبرياء. إنها علاقة إسرائيل بالفلسطينيين. في الحقيقة برزت المقارنة في إعلان الاستقلال الذي كتبه توماس جيفرسون، أعظم اللبراليين بين الآباء المؤسسين. وجاء في الإعلان ضد الملك الإنجليزي جورج الثالث أنه دشن بلا رحمة ضدنا هجمات المتوحشين الهنود، ممن لا يفهمون في الحروب غير التعذيب والقتل وأضرابهما. وهذا ينطلق مباشرة من دعاية الصهيونية. إنه لقيد ممتد في عمق التاريخ على الثقافة والتاريخ الأمريكيين. وفوق ذلك كله فالبلاد اكتشفها متطرفون دينيون كانوا يلوحون بالكتاب المقدس ويصفون أنفسهم أبناء إسرائيل يعودون إلى الأرض الموعودة. وبذا فالصهاينة عثروا على البيئة الطبيعية لحركتهم في هذه البلاد.

يرى أمريكيون كثر أن اليهود يكررون إحياء تاريخهم، علاوة على أنهم يقرون تصرف الصليبيين وهم ينجحون في إلقاء (الكفار) خارج الأرض المقدسة.. هنا يكمن التماثل مع الأمريكيين وهم يحتلون الأرض الجديدة. والصهاينة يستثمرون التماثل استثماراً جيداً، وبصورة إيجابية. نحن جلبنا التحضر إلى البرابرة، وهذا يشكل محور أيديولوجية الإمبريالية بكامله. وهو متجذر في عمق الحياة الاجتماعية.

وهناك عنصر الحرب الصليبية. فقد قورن الجنرال اللنبي بريتشارد قلب الأسد. ولدى تأبينه بعد عشرين عاماً تكررت المقارنة. بالنسبة للغرب عدّ 1300 عام حقبة إهانة للغرب، عندما احتل (الكفار) الأرض المقدسة. والآن تعود إلى أيدي العالم المتحضر، واليهود يعودون. كانت تلك هي القاعدة الثقافية العامة. اليهود بالقدس، والمسيح سوف ينزل، وستحل ألف عام من السلام. ثلث الأمريكيين يصدقون كل كلمة في التوراة.

أما في أوساط المثقفين فقبل عام 1967 فشل اللوبي الإسرائيلي في حمل مجلات أمريكية رئيسة مثل كومنتاري أو صحف التيار الرئيس مثل (نيويورك تايمز) على تبني خط السياسات الصهيونية.

التحق تشومسكي عام 1953 بأحد الكيبوتسات. لاحظ كومة من حجارة وسأل صديقاً له عن سرها فهز الصديق كتفيه ولم يجب. لكن في المطعم بعد تناول الغداء انفرد به الصديق، وقال: إن قرية عربية كانت في الموقع هدمت أثناء حرب 1948 وشرد سكانها. آنذاك أولى تشومسكي نظرة طبيعية للأمر، باعتبار العنف والتدمير هما المناخ المواكب لإنشاء الدول، فكل الدول مقيتة ورهيبة، تشكلت جميعها بالعنف  الولايات المتحدة تترامى على نصف أراضي المكسيك، والحدود الأوربية تعززت بواسطة القوة المسلحة بعد قرون من الوحشية، ونفس الأمر حدث في كل الأصقاع.

ارتبط تشومسكي مع إدوارد سعيد بالقضية الفلسطينية بعد عدوان 1967. لم تعد القضية تخص إسرائيل وحقوقها، إنما برزت قضية الأراضي المحتلة. يقول : منذ ذلك الحين شرعت الكتابة حول القضية. وأجرى المقابلة الأولى معي الصديق عساف كفوري، الذي تخرج في جامعة (أم آي تي) عام ،1969 ودار الحوار حول السلام في الشرق الأوسط. على إثرها زارني في البيت مجموعة من الأساتذة الإسرائيليين لمناقشتي في ما صدر عني من هرطقة. كانوا من الصهاينة الحمائم، من النوع الذي تحول إلى حركة السلام الآن أو معسكر السلام (غوش شالوم).

كانت الرسالة الأساس لتشومسكي: يمكن إقامة ترتيبات فيدرالية بين المناطق اليهودية والفلسطينية. لكن الأمور تطورت بحيث غدا من الضروري أولاً التوصل إلى حل الدولتين، فذلك هو الطريق المعقول لإقامة دولة واحدة. لا أعرف طريقة معقولة أخرى للتحرك نحو دولة واحدة ثنائية القومية… استعرضت احتمالات إقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين قبل عام 1967. لم تكن ممكنة ما بين 1948 و،1967 لكن مع احتلال إسرائيل للأراضي العربية اعتقدت حينئذ (وحتى الوقت الراهن أومن بذلك) أن بالإمكان إقامة نوع ما من الترتيبات الفيدرالية بين المناطق اليهودية والفلسطينية. بعيد الاحتلال جوبهت فكرة الفيدرالية بمقاومة ضارية من قبل المسؤولين في إسرائيل، ذلك لأنها حظيت بالتأييد الواسع. والآن خفتت المعارضة نظراً لتراجع تأييد الفكرة.

يكرر تشومسكي أن ليس صحيحاً أنه يعارض فكرة (الدولة الواحدة). (فما أعارضه هو الفشل في وضع مخطط أولي لطريق معقولة ننطلق عبرها من الوضع القائم حتى ذلك الهدف. والممر الوحيد المعقول يبدأ بحل الدولتين. وهناك إجماع دولي يكاد يكون شاملاً على حل الدولتين طبقاً للحدود المعترف بها دولياً.

العدد 1104 - 24/4/2024