الإمبريالية الأمريكية.. وأزمتها.. وسورية

تجتاز سورية منذ ما يقرب السنتين أصعب ما عرفته في تاريخها منذ الاستقلال، من الانقلابات والمؤامرات وحروب الهزائم والانتصارات ومن بطولات وخيانات ومقاطعات.. إلخ.

كما تعرفت واختبرت العديد من البلدان العدوة والصديقة، وبقيت مع كل ذلك محافظة على استقلالها وسيادتها وعلى تآلف مختلف فئات شعبها. وبنت نظاماً  تقدمياً وحققت إنجازات لا تنكر، شعبية الطابع اجتماعية المحتوى. لكنها لم تخل من عقبات وفرز طبقي ازداد عمقاً بسبب إدارة بيروقراطية خضعت لتبدل عميق في ميزان القوى، ولليبرالية وعولمة غريبة عنها، وتواطؤ مع فئة طفيلية فاسدة جعلت من الفرز الطبقي ليس نضالاً ومنافسة على خدمة التنمية والتطوير، وإنما عداءً واحتكاراً وقمعاً ومجابهة وقبولاً لنصائح وإملاءات، تكرس التفاوت وتغذي نمطاً من الحياة والملذات والترف الاستهلاكي، وإعلاء شأن الربح وأساليب الفوز به فوق القيم وروح التضامن الاجتماعي والالتزام الوطني.

وإذا كانت الخطة الخمسية الحادية عشرة قد تعطلت بسبب الإرهاب الذي غزا البلاد واحتلت مكافحته الأوَّلية في عمل الدولة والجهاز الاقتصادي السياسي والاجتماعي، فلم يفتنا أن نقول في حينه أن هذه الخطة معدة لاستكمال ما فعلته الخطة العاشرة، ولتزيد الطين بلة، وتستكمل القضاء على بقية هياكل الاقتصاد الوطني المستندة إلى قطاع عام صامد، وقطاع خاص وحرفي ووطني، وبقايا مكاسب في التعليم والخدمات الصحية والدعم التمويني والإنتاجي، وهدر كل الاحتياطيات تمهيداً لتعميق الهوة بين السلطات والشعب، والوقوع لقمة سائغة في أحضان قوى معادية أو صنيعة الاحتكارات وهي حالة أزمة طاحنة تبحث عن ضحايا سهلة المنال.

واضح أن سورية لم تكن استثناء في سياق العاصفة المسماة بالليبرالية الجديدة والعولمة، الظاهرتان المعدتان لمجابهة البلدان الرأسمالية لأزمتها. ومع ذلك فالاستثناء السوري يشمل ممانعة فعالة وبطئاً في التوجه واشتراطات وتردداً واضحاً ظهر في تجميد ورفض الانضمام إلى السوق الأوربية المشتركة وغيرها من تنظيمات العولمة. وكل ذلك بتأثير البنية الاجتماعية القائمة في البلاد، ونفوذ القوى اليسارية والعمالية، والوعي الشعبي والحرص على مكاسب اجتماعية ملموسة، وها نحن أولاء ندفع ثمن هذه الممانعة دماءً وتشرداً ودماراً منقطع النظير، وتكالب المزيد من الأعداء. ونستمر مع ذلك في الصمود ورد العدوان. ندفع ثمن الصمود مهما كان غالياً ومؤلماً، وندفع ثمن أخطاء مؤلمة أكثر. ولا يخفى الأثر الهام للموقف الروسي والصيني في الدفاع عن سورية ضد عدوان شبيه بالعدوان على العراق وليبيا.

لم يكن مصادفة اختيار سورية منعطفاً للانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى أفضل، وأن تصبح أرض معركة مفصلية بين قوى محلية ودولية، وأن تتحول تضحياتها إلى أمانة في ذمة المستفيدين والفائزين بظروف وشروط أفضل، في مستقبل أقل ظلماً وجوراً وإمبريالية منزوعة المخالب ورأسمالية مسيطر عليها لصالح ديمقراطية ذات محتوى تقدمي وحرية معممة على مستوى الأفراد والأمم.

 

مخططات مبيتة

كانت المخططات الأمريكية والأوربية تقضي بضرب سورية مباشرة بعد تدمير العراق، عملاً باقتراح كيسنجر (بأن إزاحة صدام ستأتي بصدام آخر، يجب تدمير العراق). وفيما كان المعتدون يهيئون لضرب سورية بتهديدات أخطرها ما قدمه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي، كانت المقاومة العراقية قد بدأت تقض مضاجع المعتدين وتحد من شهواتهم للمزيد من التدمير. كسبت سورية الفترة ما بين ضرب العراق وبدء ما سمي بالربيع العربي الذي أعد لغيرها، ولكنه لم يحل دون تعرضها لما هو أصعب وأخطر. لم تكن فترة راحة بأي معنى من معاني الراحة، بل كانت مليئة بالمشاحنات في المحيط وتناقضات في الداخل وضغوط ومقاطعات متصاعدة ومناورات سياسية بكل ما تعنيه: ضرب المعنويات وهدر الأعصاب، والمجابهة الدموية مع ما يسمى بالإرهاب. لم تعد كذلك في مرحلتها الثانية، وإنما تحولت إلى عدوان مباشر إمبريالي وبأدوات متعددة المشارب، أخطرها ما تلقاه البلاد والعباد ممن كانوا أشقاء من حولنا.

 

مجابهة متصاعدة

إنها، أي المجابهة المتصاعدة، كشفت عن بطولات وخيانات، عن استعدادات وإهمال، عن إخلاص وطني وفساد، بما يسمح بالقول: إن الربيع الحقيقي حدث عندنا أقوى مما عند غيرنا بإنباته وكشفه عن كل ما كان مخفياً في باطن الأرض، وعما هو فاسد زائل، وصالح باق لبناء الوطن من جديد بمعالم يستحقها.

غالباً ما نسمع أن للولايات المتحدة والغرب مصالح في بلادنا يريدون الاحتفاظ بها. وفي هذا المصطلح والتعبير تتجلى كل معاني الدونية والخضوع والتساوم والتفريط بالمصالح الوطنية وخبز الشعب ومستقبله. وبربكم متى فاقت مواردنا حاجاتنا وفاضت مصالحنا مستلزمات وضروروات تطورنا حتى نفرط بها أو بجزء أساسي منها، لزيادة الأغنياء غنى أو للمساهمة في حل أزمات يفتعلونها ؟ يبدو أن ملوك المال يتحدون ويتضامنون على النطاق العالمي بفعل غريزة الاستغلال والظلم، ويتملكهم الرعب والخوف من اتحاد يجمع عمال العالم وشعوبه المضطهدة لا لاستعادة الحقوق وحسب، بل  لإنقاذ العالم وجعله ربيعاً دائماً.

 

أزمة الرأسمالية الطاحنة

بدأت بوادر أزمة الرأسمالية العالمية عندما أعلنت الولايات المتحدة ومعها أوربا جزئياً سيادتها على العالم، وطالبت الجميع بالخضوع للنظام العالمي الجديد الذي صاغته وفقاً لمصالحها، بعد أن خلا العالم من المنافسة والمجابهات السوفييتية، وحركات التحرر الوطنية. انتهز الرأسمال المصرفي هذه الفرصة ومد نفوذه عملياً على كل النشاط المصرفي العالمي، واستمر في امتصاص خيرات العالم عن طريق المضاربات النقدية والاحتيالات المالية والضغوط والتهديدات التي تضمن الربح الأعلى والأسهل وتؤدي إلى الإمساك برقاب الدول والمجتمعات مهما بلغت ممانعتها. وعندما يسهل تحقيق الربح الأقصى ويتم التسابق لجنيه، يصيب العمى الطبقي عيون المتسابقين ويتلاشى حذرهم من المخاطر، وبعد الوصول إلى القمة يبدأ السقوط. وما انهيار الأسهم في بداية 2008 إلا سقوط مريع أدى إلى تحول الأزمة إلى أزمة بنيوية بمعنى مسها بل زعزعتها أسس النظام الرأسمالي، القائم بالأصل على أولية إنتاج القيمة الزائدة، وثانوية توزيعها. وإن شروط إعادة إنتاجها، نحو مستويات أعلى تكمن عند منتجيها ومستهلكيها لا عند المضاربين بها.

توهم العديد من الاقتصاديين ورؤساء الدول، خاصة النامية منها، أن تحرير الأسواق وقلة الرساميل وتخلّي الدول عن التوجيه المحكم لاقتصادياتها، كما تقضي الليبرالية والعولمة، إنما تخلق فرصاً تنموية جديدة عبر ما يسمى بإعادة توزيع الرأسمال العالمي، قد تحظى هي بشيء منه. وإذا بالنتائج تسفر عن عكس ذلك، وتنقلب الأهداف إلى التضحية في صالح إنتاج وتعزيز فئة في الداخل تزيد التبعية للاحتكارات، وتطيل عمر النهب المتأصل في هذه البلدان وتخلفها، بل وتحولها سياسياً إلى ديكتاتوريات تعمّق الهوة الحضارية بينها وبين الدول المتقدمة.

قلة من الدول النامية أدركت أن الأزمة الراهنة مستعصية على الحل، كونها ترقى إلى مجابهة تاريخية ذات طابع اجتماعي تنموي وانعطاف عالمي، بات للحركات الجماهيرية وضغوطها الدور الأكبر في معظم دول العالم أدى بالضرورة إلى تعثر الليبرالية وتصدع العولمة، وتفكك تعاضد الداعمين لها. وبتأثير هذه التحولات برز ما يسمى بالدول الصاعدة التي يرجح أن يساعدها حجمها لضمان مواجهاتها للاحتكارات والنجاح في تشكيل تكتلها الخاص فتعزز نفوذها وتغري بلداناً أخرى كثيرة باتباع نهج الممانعة نفسه.

من البديهي أن لا يروق هذا التطور للاحتكارات الإمبريالية أن ترفض، ما دامت هي الأقوى اقتصادياً وعسكرياً، فأعلنت دون تردد أن الصين تشكل تهديداً لمستقبلها ولنفوذها في آسيا، وأن روسيا تشكل الخطر الأكبر لموقعها العسكري، ووجدت في كل مكان من يبيعها جهوده. وكان الإرهاب المعمم البضاعة الرائجة في سياستها تجاه من تصنفه عدواً، والمقاطعات أدواتها الاقتصادية المكملة لمحاولة إركاع الدول التي تستهدفها. وكان أخطر ما قامت به هو تبني مبدأ الاستباق في اتخاذ إجراءاتها المعادية بناء على فرضيات وحجج غامضة ومصطنعة غالباً. إن تطور الأحداث وخاصة تصاعد نفوذ اليمين الفاشي في الولايات المتحدة وأوربا يتجاوز ما كان يعرف بالحرب الباردة، ومخاطر عودتها من جديد، إلى صراعات دينية وطائفية وإثنية وإحياء أكثر المجابهات خزياً في التاريخ، وكل ذلك لإبعاد الصراع عن محتواه الطبقي وربما السلمي والديمقراطي أيضاً.

وبمعزل عن تطور الرأسمالية في الصين وروسيا وغيرها من بلدان البريك فإنها تعارض سياسة الهيمنة الأمريكية، وتريد سلماً يدوم وتعاوناً مثمراً على الأقل طوال 20 – 25 سنة تستكمل فيها تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وتحل صعوباتها الموروثة، وتعمل على نظام عالمي يقر بحقوق الشعوب في اختيار طريق تطورها، وبضمن ذلك الطريق الاشتراكي.

 

التسلل إلى الدول النامية

ولاحظ معظم المراقبين للمعركة الانتخابية في الولايات المتحدة، احتدامها إلى درجة توحي بأن الحزب الخاسر، وهو الجمهوري على الأرجح، سيتعرض لنقمة الشعب لما تسببه من أزمة، ولما يمارسه من فاشية في الداخل والخارج.

كما سيلاحظ  المراقب نفسه نمو تيار ثالث يرفض سياسة الحزبين، ويسعى لتنظيم صفوفه، ليضع حداً لجور الاحتكارات ونزعتها الفاشية. فليس من قبيل المصادفة أو التعاطف أن تحتل مسألة البطالة مركز الصدارة بين كل الشعارات الاجتماعية، وبالتالي الانتخابية. فالبطالة التي هي إحدى مقومات ومحفزات الربح الرأسمالي لم تعد جزءاً من أزمته، وإنما حالة التهاب في بنائه ثبت أن معالجتها تزيدها التهاباً، وتهدد مع بقية مظاهر الأزمة النظام الرأسمالي الإمبريالي في الصميم. والملاحظ أيضاً أن كراهية الولايات المتحدة والتصدي لخططها لم يعد يقتصر على المعتدى عليهم من البلدان، وإنما يمتد إلى الأعوان والأصدقاء أيضاً. إن بعض بلدان أوربا الجنوبية بات يخشى الانحدار إلى عداد البلدان النامية، وبعض المتقدم منها بات يتردد في السيرتحت قيادة الولايات المتحدة، خاصة في المجال العسكري. ومهما قيل وكتب عن الربيع العربي فهو يندرج عملياً بالصحوة العامة التي تلف العالم. وإن اتضح بالنتيجة أن التحالف الإخواني والأمريكي حد من تطور وتصاعد المجابهات وتحقيق مكاسب شعبية أعمق. إلا أن ما لم يعد بمقدورهم فعله هو إعادة الشعب وثورييه إلى القمقم كما في السابق، والمناورة أو التحايل على أهدافه الأساسية سواء بالرشوة الشعبية الرخيصة أو بالعصبيات الدينية.

والمعروف أن النفط منذ اكتشافه لم يكن مجرد بضاعة، وإنما مصدر قوة اقتصادية عسكرية شاملة، ومواقع إنتاجه ونقله وتصنيعه من أهم مواقع الصراع بين الدول والاحتكارات. وهو اليوم أداة أمريكية للهيمنة على البلدان الأخرى، وتحويل الدول المنتجة، وخاصة العربية منها، إلى مجرد جباة أموال بأسعار باهظة لتمويل سياسة القمع الإمبريالية، وسياسة عرقلة تطور البلدان المنافسة، وتغطية جزء من الديون التي باتت تنهك اقتصاد الولايات المتحدة ومعظم البلدان المتطورة والنامية ذات العلاقة معها. إن فشل هذه السياسة لم يعد خافياً على أي مسؤول أو مراقب، ولم تنفع عملية الانتقال من البوشية إلى الأوبامية في إيجاد الحل المناسب، الذي ليس في هذا الجانب من المتراس الاجتماعي وإنما في الطرف الآخر، أي بالتجاوب مع حقوق ومطالب الكادحين الأمريكيين وتغيير المواقف تجاه البلدان الأخرى.

فيما عدا ذلك فالتسابق بين الأزمة وحلولها ليس في صالح هذه الأخيرة، والنظام الرأسمالي يستثير معارضين أكثر مما يكتسب موالين، وأن الربح الذي هو أهم حافز للنظام الرأسمالي بدأ يتحول إلى أهم عائق في تطوره واستمراره.

 

عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري (الموحد)

العدد 1104 - 24/4/2024