التنمية.. وإعادة الإعمار (3) – الإعمار.. إشكالات واقتراحات

بداية نؤكد ما كتبناه في مقالات سابقة، أن عملية إعمار ما خربته تداعيات الأزمة السورية هي عملية شاقة..وطويلة الأمد، بالنظر إلى حجم الخسائر، وهي تتطلب برنامجاً حكومياً يتوافق مع الخطة الحكومية الاقتصادية، ونوضح هنا ونحن ندرك أن هذه العملية تفوق قدرات الدولة، خاصة بعد تناقص إيراداتها العامة، والاستنزاف المقصود للقدرات الاقتصادية والمالية الذي سعت إليه الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها بهدف أخذ سورية من بوابة الاقتصاد، وهذا ما دفع بعض المنظمات الدولية والتجمعات الاقتصادية في الداخل والخارج إلى وضع سيناريوهات متعددة لتنفيذ عملية الإعمار في سورية تتماشى مع دوافع كل منها حيناً، ومع خطط مبيتة (لتطويع) سورية حيناً آخر.

إن عملية الإعمار توفُّر مصادر داخلية لتمويلها بالدرجة الأولى، وهذا يعني، حسب ما نرى، إنعاش الاقتصاد السوري كي يحقق التراكم الداخلي القادر على التمويل. وهنا نصطدم بعقبة كبرى: كيف ننعش الاقتصاد الوطني في ظل بنية تحتية مهدمة بفعل جرائم الإرهابيين؟ وهل تستطيع قطاعات الإنتاج الصناعية والزراعية، وقطاع النقل والخدمات والتصدير.. الانطلاق، بغياب البنى التحتية اللازمة لعملية الإنعاش؟

السؤال الأبرز هنا: بغياب التمويل الداخلي الآتي من نهوض الاقتصاد السوري، هل يمكن الاعتماد على الدعم والتمويل الخارجي لتنفيذ عملية الإعمار؟ إن بعض السيناريوهات الخارجية المعدّة لإعادة الإعمار تلجأ إلى تضخيم تكاليف هذه العملية، في محاولة لإظهار استحالة تنفيذها بالقدرات الوطنية السورية، لتصل إلى ضرورة الاعتماد على الخارج (القروض المصرفية – قروض البنك الدولي – قروض الشركات الأجنبية المنفذة – المنح المالية المشروطة – قروض وتسهيلات الدول الصديقة)، وهذا السيناريو يجب أن يترافق مع توجه اقتصادي يتوافق مع هذا السيناريو، أي بكلمة واحدة: تبنِّي سياسات اقتصادية نيوليبرالية ريعية.. نخبوية، بالاستناد إلى آليات السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روّجت لها المؤسسات الدولية، خاصة برامج التثبيت الهيكلي والتكييف الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته (توافق واشنطن) بهدف (تسهيل إعادة الإعمار واختصار الزمن). ويجري التسويق لها بواسطة مشروع إعادة إعمار سورية الذي حمله السيد عبد الله الدردري، باسم (الأسكوا)، إلى الحكومة السورية، بهدف الحصول على المنح والقروض والمساعدات من الدول الرأسمالية والخليجية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، فهو حسب زعم واضعيه، السبيل الوحيد، لتأمين احتياجات الإعمار، وترميم ما خرّبته تداعياتُ الأزمة السورية، وما تسبَّبَت به من أضرار شملت قطاعات الإنتاج الرئيسية في القطاعين العام والخاص، والأملاك الخاصة بالمواطنين.(1)

إن عملية الإعمار، بخصوصيتها السورية، تعني أكثر من البناء.. والتصنيع.. وإنتاج المحاصيل، لقد جعلت مجريات الأزمة السورية من هذه العملية – حسب اعتقادنا- خطة شاملة لبناء الإنسان السوري الجديد أيضاً، الإنسان الإيجابي.. الديمقراطي، المتمسك بانسجام مجتمعنا الذي هدَّدتْه دعوات، التطرف والتفتيت الديني والطائفي، والارتقاء إلى مجتمع علماني يعطي (ما لله لله وما لقيصر لقيصر).وهذه عملية قد تكون أكثر إلحاحاً وأهمية من البناء المادي للحجر والشجر.

تمويل الإعمار

إن ذاكرة السوريين لم تنسَ بعدُ، ولن تنسى ما أدت إليه هذه السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في العقد الماضي، ولن تنسى أيضاً كيف استغل الخارج غضب سائر الفئات الاجتماعية، الناقمة على معاناتها المعيشية.

 لذلك نرى أن إعمار ما تهدم لن يتحقق بالاستناد إلى سياسات اقتصادية كانت السبب في تحجيم قطاعاتنا المنتجة، وفي إثارة غضب الجماهير الشعبية، بل يتحقق بعد توافق السوريين على نهج اقتصادي تنموي.. تعددي، استناداً إلى خطة مركزية حكومية، يساهم فيها القطاع الخاص والرساميل الوطنية.. ولاتهيمن أو يهيمن عليها، خطة تضمن التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي الناتج عن قطاعات الإنتاج الحقيقي لا الريعي، ومتطلبات التنمية الاجتماعية، تتوزع على مدد زمنية محددة، وتُستخدم لتنفيذ هذه الخطة المواردُ المحلية الحكومية، ومساهماتُ القطاعات الخاصة المنتجة. كما يمكن الاستفادة من قروض الدول الصديقة والشقيقة، وقروض الصناديق المالية الدولية غير الخاضعة لهيمنة الأمريكيين، ومن برامج التنمية التابعة للأمم المتحدة. والمنح والتبرعات غير المشروطة، وسندات الخزينة المخصصة حصراً لتنفيذ مشاريع الإعمار، والاعتماد في تنفيذ هذه المشاريع على الشركات والمؤسسات الحكومية، خاصة شركات الإنشاءات العامة.

ونقول هنا صراحة: إن البعض يستعجل بدء عملية الإعمار، حتى قبل وضع الخطط الحكومية المناسبة.. وقبل تدبير مصادر التمويل، وذلك بهدف اقتناص العقود..وتأمين (الشركاء)، وأخذ العملية برمّتها إلى المنحى الذي يُرسم لها في الدوائر الأجنبية و(المحلية) المشبوهة، لأخذ سورية من الداخل بعد أن عجزت عن أخذها من الخارج.

ونرى ضرورياً أن نقول أيضاً: في ظل الظروف السياسية والإقتصادية التي تمر بها سورية، وبعد الخسائر الكبيرة التي تحملتها مختلف جهات القطاع الخاص – الذي عمد بعض رموزه إلى تهريب أمواله التي جمعها من أموال السوريين -، وبعد انسحاب الشركات الأجنبية مع أول قرار بالعقوبات وفرض الحصار الإقتصادي على سورية، سيكون من غير السليم الوقوع مرة أخرى في أخطاء دفعنا ثمنها في الماضي وما زلنا نعاني تداعياتها، أي تفويض القطاع الخاص والشركات الأجنبية بمهمة الإعمار تحت ذرائع مختلفة تصب جميعها في خانة (التكاليف المرتفعة لهذه العملية، وتواضع الإمكانات المتوفرة لدى الحكومة).

ولتجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء، نرى ضرورة إحداث صندوق خاص تصب فيه الموارد التالية:

مخصصات ترصد في الموازنة العامة.

– مبالغ التعويضات من الدول التي وقفت وراء العمليات التخريبية وذلك بقرار دولي.

الأموال التي سيتم استعادتها من الخارج، والتي نهبت وسرقت أساساً من أموال الدولة والشعب.

– المنح والمساعدات من الدول الصديقة والداعمة.

وأن يوضع للصندوق نظام خاص وإدارة ذات صلاحيات واسعة، على أن تتمتع بالنزاهة والشفافية والكفاءة والالتزام الوطني. ويعين لهذا الصندوق مجلس أمناء، يضم عدداً من أصحاب الكفاءة، إلى جانب ممثلين عن المتضررين وممثلين عن القطاعات الاقتصادية والخدمية.

ويتلازم إحداث هذا الصندوق مع برنامج شامل لإعادة النظر بالتشريعات الاقتصادية، يعتبر الإصلاح الضريبي أهم مجالاته، كما تجرى عملية حصر لأملاك الدولة في القطاع العام والمرافق، بهدف تحسين الأداء فيها، ورفع نسبة إسهام مواردها في عملية التنمية والإعمار. (2)

ستبقى مهمتا إنعاش الاقتصاد الوطني والإعمار مسألتين خاضعتين للنقاش والحوار في الداخل والخارج، لكننا كنا.. وما زلنا نؤكد ضرورة حلّ هاتين المسألتين في الداخل عبر حوار وطني يشارك فيه جميع خبراء الاقتصاد السوريين. ونعتقد أن جمعية العلوم الاقتصادية السورية قادرة على لعب دور مؤثّر في هذا المجال.

المراجع:

1- راجع حديث عبد الله الدردري لمشروع الحوار السوري- مواقع إلكترونية.

2 – راجع الدكتور منير الحمش: (الاقتصاد السوري من المحنة والكبوة إلى النهوض والتنمية).

العدد 1105 - 01/5/2024