هل تستطيعون؟

هل تستطيعون رؤية الشمس وهي تزحف كل صباح خلف الجبال الشرقية؟ الشمس زهرة السماء تهديها إلى كائنات الأرض، الشمس رمانة من دم نوراني يفيض نسغاً على الكائنات الخيّرة، ويطهّر الأشياء والأماكن من عفنها وأدرانها، ويهدي الفصول ثيابها الجديدة. الشمس غزالة تجمح في اتجاه واحد، غزالة تلفّ برقصها الرتيب خصر الأرض، ولا تكلّ من اللوبان باحثة عن مرايا سحرية، وأمشاط من نور. الشمس لن تحظى بما تبحث عنه، هي حمقاء بلطف، وشرسة بوداعة، فهل تستطيعون أن تعزلوا الحمق عن اللطف، والشراسة عن الوداعة؟ كيف ذلك؟

هل تستطيعون رؤية الغيم وهو يبرعم فوق المساحة الزرقاء الواسعة؟ الغيم لا ينبع من الماء، وإنما يتشكّل وحيداً بقدرته، فكيف لكم أن تتأمّلوا بذرة الغيمة الأولى وهي تتطاول وتستدير في جهات شتّى، قبل أن  تأخذ شكلها الأخير على هيئة غيمة؟ وما السرّ في تعاكس المسير بين الشمس والغيم؟ الغيم  قطيع نعاج يسير بهدوئه وبراءته باتجاه الشرق باحثاً عن مرعى صحراوي يختبئ بين ثناياه. الغيمة إلهة شرقية تعود إلى مخدعها كلما حلّ ظلام، والغيمة حفيدة أفروديت، بين يديها تشكّلت، وكما شاءت مشكّلتها تسير.

هل تستطيعون رؤية براعم الريح؟ أم تستطيعون أن تتخيّلوا كيف تنبت؟ ذلك صعب على الخيال المحدود مهما حاول صاحبه التحليق في الفضاءات، ومهما عصفت في ذهنه الأفكار والرؤى. ربما يجعل ذلك منه شاعراً، أو نبياً، لكنه يبقى أسير معرفته المحدودة، ولن تنكشف الأسرار إلاّ لمن يرى في الجنون فضيلة، وفي التصوّف (براغماتية) مطلقة. وسواء كانت حركة الفكر البشري (آلة لخالق الوجود) أو كانت (انعكاساً لحركة الوجود منقولة إلى رأس الإنسان ومستقرة فيه) فهي الآلة الضعيفة تلك، وهي الانعكاس ذاك في حدّه الأدنى.

بين المثالي والواقعي مسافة نقطة، لكن كلاًّ منهما يسير في اتجاه معاكس للآخر، وهما سيلتقيان في نقطة أخيرة تتمثل في جهل كل منهما للحقيقة. فيصير المثالي شاعراً، ويصير الواقعي معمارياً. كل منهما يرى الكون حسب طريقته الخاصة، فالشاعر يستطيع رؤية براعم القصيدة قبل أن تندلق في رأسه، والمعماري قادر على رؤية سطح ناطحة سحاب قبل أن ينشئ قواعدها.

هي رؤية البراعم، نستطيع الوصول إليها حين نعطي أنفسنا مساحة كافية للتأمل، ونفتح ما نستطيع من آفاق أمام خيالاتنا، فما من قطرة مطر إلاّ لها مسرب على قدّها، وخط سير تعبره تاركة وراءها شيئاً من رطوبة تمنح السماء بعض اللطف، لتغور في الأرض مانحة حياتها لبذرة تنتظرها، والريح لا شكّ أنها تكنس غبار الأرض، لتنغسل الكائنات، وتتجمّل.

لن يصلّي فريضة الصبح من لا يرى الشمس وهي تزحف، ولن يذهب إلى الحقول من لا يرى براعم الغيم، ولن تنشطر القصيدة لدى شاعر لا يستطيع رؤية لحظة الانبهار قبيل الخلق. لن يدخل مضمار السباق من لا يرى جموح غزالة مطاردة، ولن يزور المراعي راعٍ لا يحسب حساباً لقطيع الغيوم في أعلى الكون. لن يصير شاعراً مَنْ فكرُه محدود، ولن يقرأ المحيط حوله من غلبته الأميّة. وعلى أولئك الذين لا يستطيعون رؤية ذلك كله، الحذر من زحف الشمس، وبرعمة الريح.

العدد 1105 - 01/5/2024