هذا المساء!

حالما يمر المرء من أمام صالات السينما يأخذه فضول غريب، ليقترب ويتأمل صور فيلم قد يحضره أو ربما سيكتفي بما يشبه العزاء بالتأمل المحايد لصور اختارتها دور العرض بعناية فائقة لتجذب جمهورها، تدعوه بما امتلكت من وسائل دعائية متقنة لئلا يفوته عرض بعينه!

ولعلها تفتتح دعوتها بعبارة ساحرة، على الرغم من بساطتها، ولربما رأى فيها البعض عبارة تقليدية فحسب. كانت هذه العبارة هي: هذا المساء.

وقد يتاح لبعض من شغفهم فن السينما، أن يذهبوا في فضاءاتها الملونة، إما مغامرة تستحق الاستذكار، أو هفوة يجب نسيانها. هكذا في زمن ما كنت ترى جمعاً كثيفاً ممن فتنهم تعبير صور السينما وتحفها الباهرة، ومواسمها ومهرجاناتها الباذخة. والآن تحتفي السينما بنفر قليل  على عجل  أيامنا وأوقاتنا، فهل خطف (تلفزيون الواقع) شغف الناس ليعيشوا في حكاياتها وسردياتها، كنا نتعلل  في وقت ما  بأن تعبير (السينما في بيتك) قد خطف الجمهور، لتتكلم السينما ويصمت من هم حولها، بفعل العادة أو الفضول، أو لوثة الانتظار الخارقة، مع فورة أفلام الإثارة والجرعات العالية من العنف الافتراضي، والخيال السائب، وتشظي حكاياتها التي يبدو أنها ستلحق بقطار ما بعد الحداثة. ورويداً رويداً بتنا نبحث عن البطل المخلّص، عن صورته، وعن طقوسه الشخصية خارج عمله. والعجيب أن لكل منا مثاله، فمن الرومانس، إلى (الفتوة)، إلى خوارق الخيال العلمي. وهكذا نصطحب (أبطالنا) المحبين ليشاركونا أحلامنا ووسائدنا الخالية نقطر حكاياتهم  و(حدوتاتهم) لترشدنا لطرق غابت عنا، فإذا غضبوا نتكئ على حافة الأرض كيلا تفلت من أصابعنا. وإذا فرحوا، استنبتنا الربيع في مواسم القحط.

والآن.. ربما تستبدل بالعبارة نفسها، عبارة أخرى: ذات حنين مثلاً! ولربما أضحت (هذا المساء) تعبيراً مفتوحاً، لأمسيات قادمة، إذ ثمة ما يحفّز على التقاط الأفكار، فهي لشدة تكدّسها على الرصيف تكاد تصبح ترفاً في ترف. فمثلاً، دورة حياة عائلة تفترش الرصيف، بالعودة الاسترجاعية للبيت والأقارب والمعارف وسوى ذلك، وليس انتهاء بصورتها الكلية كمن يستعد لابتسامة كاميرا ما. ومن ثم، رغم ورغم، هناك بعض العشاق يصرّون على أن الحياة مستمرة، لا تصدق أن المآسي خلفهم، لكنهم مشغولون بصناعة الحياة. أبطال طليقون، بعيداً عن الكاميرات، وعن ارتباك (الإعادة) لنسيان مقطع أو جملة محددة، يخرجون عن النص لنصوصهم بالذات فقط تباغتهم قطط عنيدة تباشر مواءها، أملاً بشيء من طعام، أو حركة باليد تشي برمي شيء ما، فيما ينكمش خيال السينما ليظل في عوالم افتراضية، يمضي إليها (المعذبون) في الواقع، ليحلموا يقظين، بحثاً عن النهايات السعيدة تفاجئهم  السينما  بنهايات مفتوحة. يأخذهم الاحتمال أنها أجمل ليعدّدوا تأويلاتهم، ويراهنوا بسعة متخيلهم. فهل تفعل السينما فعلتها، أم أنه لا عزاء للتأويل والتفسير، وبوسع قراصنة السينما أن يقولوا لك: بيتك جنتك. فهل تلهث مع بناء الحكاية، وتنتظر مصادفاتها؟ اختر النهاية بنفسك، حتى يكون  هذا المساء  في رحاب بيتك، وإليك موجز كل حكاية.. واترك من يغالبون دموعهم في الأفلام الهندية لزمنهم هم، أما زمنك فإيقاعه متغير وسريع، فقد تأتي النهاية من البداية، وعليك وحدك يقع عبء أن تتعظ، أو أن تقع في أحابيل المخرج (الفلتة)، مخرج الروائع.. بامتياز!

العدد 1107 - 22/5/2024