حدث يوماً ما

مشهد1 حدث برتقالي

 

تضعك المواقف أحياناً في الإحراج فلا تجد منقذاً إلا الذات، إنه عالم مواقف السرافيس حيث كنت أحمل كيس البرتقال، ثم بدأت المعركة، تأهُّب وهجوم كاسح باتجاه السرفيس، فلتسلم لي طلته المضيئة كالشهاب، إنها تفرح القلب لثوان فقط، لأنه بهذه الثواني يكون قد امتلأ فمه وكاد أن يتقيأ. تستطيعون القول إنه مثل ومضة الفلاش يجيء ويروح، و لا نحس إلا بكم نعرة بالظهور والأكتاف والصدور و… وبلا طول سيرة عليكم، بإحدى الكرّات انفلت مني الكيس وقد كنت بجانب السرفيس، وكدت أثبت رجلي على حافته، فلعنت  الزحمة والسرعة والبرتقال الذي اشتريته بخمس وأربعين ليرة تنطح بعضها بعضاً.

 وبرم البرتقال على الأرض وبلهجة المصريين (عينك ما تشوف إلا النور). وصارت الجماهير خائفة إذا دعست تتزحلق وإن لم تدعس تتفركش، فمنهم من دعس ومعس وسحق ومحق، كما تفعل جيوش الوطن الواحد ببعضهم. (خرجت عن السيرة سامحوني). وهناك شخص كان سينقلب على ظهره لولا الدافشين الدافعين الذين سندوه وأمطروني بوابل من الشتائم: هلأ وقتك؟ تضربي أنت والبرتقان،مسطولة، حلّي عنّا. وأنا يجب أن أبقى متماسكة باعتبار أن ما حصل غير ذي أهمية، وفي الوقت نفسه عليّ لملمة بعض البرتقال حفاظاً على نظافة الشارع، مع أن رائحته فاحت منعشة بهذا الجو الدخاني الكئيب. ثم تركت كل شيء ووقفت كأنما ليس لي علاقة بالحدث، وصرت أضحك في سرّي، لأنه لا ينقصنا مجانين باتوا كثراً هذه الأيام، مع أن الموقف يستدعي الضحك بصوت عال.

 

مشهد2حدث مازوتي

وبما أنه يا سادتي يجب أن نحتاط للشتاء بما يجنّبنا المرض، وبما أن البرد كما يقال سبب كل علة، وبما أن العيشة صعبة ومش سهلة على حد قول زياد الرحباني، كان علينا مع البرتقال الذي يمنحنا الوقاية من الأنفلونزا اتقاء البرد، فقد قررت إحضار (بيدون) صغير من الضيعة بما أنهم استطاعوا تأمين المازوت بصورة أسهل.

أنزلت البيدون من السيارة وحملته بكل فخر، طبعاً هذا مازوت وليس أي شيء آخر، ومن ينظر في عينيَّ وقتئذ يجد فيها لمعة المازوت حين يندلق على الأرض بألوان قوس قزح الراقصة في يوم ماطر (أرأيتم كم هي شاعرية هذه العبارة)؟ وضعت البيدون عند زاوية مدخل الحارة ولم أتوقع سوءاً سيحصل، ذهبت إلى المحل المقابل القريب جداً كي أشتري المتة، صديقة الليالي الحزينة، وبلمح البصر خرجت السيارة من الحارة وصدمت بيدون المازوت كأنما صدمتني معه. آه وا حسرتي على مازوتاتي مدفئاتي الثمينات الغاليات على قلبي وروحي وجسدي! أهذه آخرتكن على الأرض؟! ما هذا الزمن العجيب الذي يجعل الغالي رخيصاً. بيأس حملت الكيس الذي أضع فيه البيدون المكسور، ومازال فيه القليل، وصعدت به إلى المنزل. أفرغته حتى آخر قطرة ثم عصرت الكيس فلم أترك ذرة مازوت عالقة بجدرانه، وكنت في النهاية سأمسحه بثيابي وأتعطر بأطيب رائحة في شتائنا القارص.

 

مشهد3حدث غازي

وبما أن الحصول على جرّة الغاز أصبح يحتاج إلى استنفار جميع السلطات الأساسية والفرعية في المنزل، وللتفرغ وللتأمل كالبلهاء على انتظار الوعد الميمون، فترتسم الجرة إبداعاً في أدمغتنا، وصلى الله وبارك على كل تفكير ينحصر بغيرها، وبشق الأنفس وبعد إرسال الدعم استطعنا تأمينها.

وحين تربعت الأميرة الزرقاء بكل جلالها على عرشها في المطبخ، فتحنا منافذ غازها وأطلقنا العنان للهيبها، بدأنا بالدوران والغثيان وأخذنا هيئة القرفان، فرائحة غازنا صدمتنا وطغت على المكان كأننا في حضيرة تضم كل حيوان بكل مخلفاته. بحثنا عن الأسباب لعلنا مخطئون،  لكنّا تأكدنا أن المنبع هو الغاز الذي لا يتوانى عن نشر رائحته المقززة، بالموازاة مع نشر حرارته المحببة كرشوة للسكوت عن إساءته. وبعد أيام قليلة كنا قد اعتدنا عليها تزكم أنوفنا، قلنا: لابأس الرمد أحسن من العمى، فوجئنا بأن العبوة قد فرغت من الغاز، واكتشفنا فيها وجود كمية كبيرة من الماء..فسكتنا عن إطلاق الحوار.

العدد 1107 - 22/5/2024