أبناؤنا ليسوا لنا

 تُعتبر التربية من أخطر وأهمّ المهام الواقعة على عاتق الأهل، لاسيما الآباء الذين يسعون لتكوين شخصيات متميّزة في أسرة متوازنة، ولهذا التوازن عدّة مقوّمات من المفترض أن يعيها كلا الأبوين ويتقبّلانها وإن اختلفت أو تناقضت مع ما نشأا عليه، وأهمها تقبّل الطفل وتحديداً في سنيه الأولى على ما هو عليه، وليس كما نريده أن يكون، مع ضرورة معالجة بعض القضايا الأساسية التي ستقوم عليها شخصيته الدائمة فيما بعد، إنما بطريقة مليئة بالحب والتفهّم والحزم بذات الوقت، ومع مرور الوقت يُصبح من أولى أولويات الأهل أن يسعوا لتربية ذواتهم فيما هم يربون أطفالهم، فمع كل طفل، ومع كل موقف يعترضنا أثناء عملية التربية علينا القيام بدراسة شخصياتنا، فلربما نحتاج إلى تغيير طرق تفكيرنا وتعاملنا مع مفاهيم جمّة في التربية، وأن نضع أنفسنا مكان أطفالنا في تلك المواقف وكيف كنا نتمنى من أهلنا أن يتعاملوا معنا أثناءها، فليس كل ما نشأنا عليه صحيحاً والعكس كذلك.

بحكم التطور وتنامي الوعي، إضافة إلى تنوّع متطلبات الحياة الحديثة، يصطدم العديد من الآباء مع أبنائهم بين ما تربوا عليه وتشربوه وبين ما هو مُستجد تفرضه الحياة، ومن هنا ظهرت فكرة صراع الأجيال وتحوّلت إلى مشكلة حقيقية يعاني منها الأهل كما الأبناء، فمعظم الآباء يتعاملون مع أبنائهم على أساس ما تربوا هم عليه متناسين أن الحياة في تطور مستمر، وما كان صالحاً بالأمس بات اليوم ربما غير ذي فائدة… مثلاً، استخدام التقنيات الحديثة بات من البديهيات لأبناء الجيل الحالي، في حين لم يكن موجوداً أو ربما كان ممنوعاً حينما كان الأهل أولاداً، ومهما كان موقفنا كآباء من تلك التقنيات سلبياً أم إيجابياً علينا أن نُقرّ بأنها باتت أمراً واقعاً، وبالتالي يُصبح من الضرورة أن نتقبّل استخدام أبنائنا لها، لكن لنبحث عن أساليب متنوعة في إقناعهم بعدم الاستلاب الكلي لها واستخدامها في مجالات هامة بدلاً من أن تُسيّرهم كيفما اتفق…

أيضاً أسلوب التواصل مع الأبناء من الضرورة بمكان أن يطاله بعض الاهتمام والتطوير، فالأب سابقاً كان يحمل بعض المفاهيم التي تجعله بعيداً كل البعد عن أبنائه، فيحصر مسؤولياته تجاههم بما يقدمه لهم من مأكل وملبس ومسكن، في حين أن التواصل الروحي والإنساني ملغياً من حياته، بل ومعيباً أو مخجلاً أن يقوم به، في حين نجد أن تواصل الأب مع أبنائه وتحديداً في فترات حرجة من حياتهم كسن المراهقة والبلوغ له كبير الأثر في استقرار نفسياتهم وازدياد الثقة به وبأنفسهم، فمروره سابقاً بتلك المرحلة يسهل عليه مساعدتهم في تخطي كل عقباتها بكل الهدوء والاتزان، لكونه يقدّم لهم معلومات تتجسّد كحقيقة واضحة لهم، وكذلك الأم أيضاً مع بناتها، وبالتالي فالأب أو الأم اللذين يتصرفان بهذه الطريقة سيتمكنان من بناء جسرٍ قوي ومدعّم بينهما وبين أبنائهما، مما يجعلهما ملجأ الأمان حين تعترض الحياة طريق الأبناء….

مثال آخر، إن أخطأ الابن أو الابنة في إحدى مراحل العمر خطأً نعتبره خطيراً عليه وعلينا، كيف يتعيّن علينا أن نتصرف؟؟؟ إحدى النماذج التي علمتني أسلوباً رائعاً في التربية، كان لأمٍ اعترفت لها ابنتها المراهِقة وهي ترتعش بذنبٍ اقترفته مع شابٍ تحبه فسمحت له بتقبيلها… أولاً لننتبه لأمرٍ هام، أن تلك المراهِقة على علمها التام من أن والدتها لن تكون رحيمةً معها، إلاّ أنها فضّلت إخبارها، وهذا مردّه إلى جسر الأمان والثقة الذي كانت الأم سابقاً قد بنته بينهما، وثانياً، ما كان من الأم إلاّ أن تحلّت بالهدوء، وأبعدت تخبط مشاعر أمومتها جانباً وجلست تحاور ابنتها في فداحة الخطأ الذي ارتُكب بلغةٍ مفرداتها مليئة بالحب والثقة، حيث أوضحت لها أنه أمر طبيعي في هذه المرحلة العمرية لكنه بحكم المنظومة المجتمعية يعتبر خطأً وكبيراً جداً…. آلت علاقة الأم وابنتها بعد هذا الموقف إلى مزيدٍ من الثقة والتفاهم والحب والصراحة، بينما لو تصرفت الأم بطريقة أمها وجدتها ووضعت الأعراف والتقاليد وأسلوب التربية القديم أمامها لن تصل إلاّ إلى الفشل الذريع مع ابنتها وبالتالي ستفقد المعنى الحقيقي للتربية…. ما فعلته الأم أنها وضعت نفسها مكان ابنتها وتخيّلت ماذا ستتصرف أمها معها؟

إذاً… لنتقبّل بدايةً أمومتنا وأبوّتنا بصدرٍ رحبٍ وبكل الحب، ومن ثم نعي ونتقبّل فكرة أن أبناءنا ليسوا لنا… ليسوا من جيلنا، ولن يكونوا كما نريدهم بكل الأمور، إنما إن زرعنا بشكلٍ صحيح سنلقى نتائج ما زرعناه حكماً حتى لو اختلفت طرقهم وأساليبهم، فلهم الحق بأن تكون لهم نظرتهم الخاصة تجاه الحياة والمختلفة عن نظرتنا….. فأبناؤنا هم أبناء الحياة المتجددة…

العدد 1107 - 22/5/2024