من الصحافة العربية العدد 679

في سورية حروب الماضي والحاضر

انطلق الصراع على سورية مع نشوء الدولة بعد سقوط السلطنة العثمانية، وجاء تضارب المصالح بين الدول الكبرى، فرنسا وبريطانيا تحديداً، وتركيا، وريثة السلطنة، لاقتسام المغانم بعد الحرب العالمية الأولى ولإعادة النظر في اتفاقية (سايكس ـ بيكو) لاحقاً.. وفي السياق عينه، ضمت تركيا لواء الإسكندرون السوري في 1939 بدعم من الانتداب الفرنسي، وتم تتريكه باسم هاتاي.

سورية، منبت القومية العربية، وجدت في الأمير فيصل، نجل قائد الثورة العربية ضد العثمانيين، أفضل من يمكن لقيادة البلاد في تلك المرحلة. لكن بعد الصدام مع فرنسا، انتقل فيصل ومعاونوه من دمشق إلى بغداد، حيث تُوّج ملكاً على العراق بدعم بريطاني. بعد الاستقلال، دخلت سورية في صراعات جديدة، منها ما ارتبط بالواقع الجديد الذي نشأ بعد حرب 1948 وقيام دولة إسرائيل، ومنها ما ارتبط بتحولات الواقع العربي في زمن المد الناصري في الخمسينيات. وفي تلك المرحلة كان الاشتباك السياسي على أشده بين سورية القومية وركنها حزب البعث المتحالف مع عبد الناصر وسورية الوطنية ـ التقليدية، إلى أن حُسم مع إعلان الوحدة بين مصر وسورية في 1958. لكن سرعان ما بدأت الشقوق تظهر داخل الجمهورية العربية المتحدة إلى أن حصل الانفصال في 1961.

خلافات جديدة برزت داخل الصف القومي الواحد بين عبد الناصر والبعث، وبين جناحَي حزب البعث الحاكم في سورية والعراق منذ 1963. جبهة أخرى أطلت برأسها في إطار سياسة المحاور بين الطرف العربي المتحالف مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والطرف المناهض له المدعوم من المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. هكذا تحولت الحرب الباردة العربية إلى ساخنة في اليمن في 1962 بين طرفَي النزاع المحلِّيَّين المدعومَيْن من مصر والسعودية.

هزيمة 1967 أعادت اللحمة إلى الصف العربي، لكن مفاعيل حرب 1973 زعزعتها، تحديداً بعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. انحصرت جبهات النزاع الإقليمية في لبنان، الساحة المباحة للمتنازعين جميعهم، وباتت سورية الطرف الأكثر تأثيراً في لبنان وفي مسار النزاعات الدائرة على أرضه، لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي في 1982 وخروج المنظمات الفلسطينية والمحاولات الفاشلة لاستعادة مواقعها في لبنان حتى منتصف الثمانينيات. توسعت المواجهات مع دخول إيران الإسلامية المتحالفة مع دمشق دائرة النزاعات، وسرعان ما توطدت العلاقات بين الطرفَين أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية. تَثَبَّتَ الدور السوري مع انضمام دمشق إلى التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.

اعتداءات 11 أيلول قلبت الأوضاع رأساً على عقب، وأطلقت تحولات جذرية في السياسة الخارجية الأمريكية، وجاءت الترجمة العملية في حرب أفغانستان، تبعتها حرب العراق. ومن ابرز مفاعيل هذه التطورات تصدّع بنيان المعادلة القائمة على الساحة اللبنانية والتردّي السريع في العلاقات بين واشنطن ودمشق، فباتت الطريق سالكة لصدور قرار مجلس الأمن 1559 الداعي إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان. حيث تم الانسحاب في 2005 على وقع انتفاضة شعبية واسعة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

في العام 2011 وصل (الربيع العربي) منهكاً إلى سورية، وفي آخر السلسلة، بعد زخم تونس ومصر وليبيا. راهن كثر على سقوط سريع للنظام الحاكم، لا سيما السعودية وقطر وتركيا التي احتضنت أكثر الجهاديين تطرفاً من العالم أجمع. لكن سرعان ما استعاد النزاع ملامح الحرب الباردة مع الموقف الصيني وخصوصاً الروسي الداعم للنظام في مجلس الأمن ولتسوية سياسية للنزاع، إضافة طبعاً إلى الدعم الإيراني وانضمام (حزب الله) إلى المعركة. الصراع على سورية هذه المرة اخذ طابعا دينيا مع إعلان التنظيمات السلفية التكفيرية بلاد الشام أرض جهاد. وبعدما أخذت الأزمة الأوكرانية مداها على ساحة الأزمات الإقليمية – الدولية، لم يبقَ سوى الأزمة السورية، حيث ساحات القتال مفتوحة لنزاعات العالم العربي والإسلامي. وعلى رغم فداحتها، فإنها لا تؤثر فعلياً في مصالح الدول الكبرى سوى لجهة حفظ ماء الوجه في سياق الارتدادات المتأخرة لحرب باردة انتهت منذ نحو ربع قرن. اكتفت واشنطن بإخراج أسلحة الدمار الشامل من المعركة، وتراهن الآن على (اعتدال) جبهة النصرة وعلى قائدها الجولاني الذي أكد في حديث إلى قناة (الجزيرة) ارتباطه الوثيق بـ (القاعدة)، وهو يعتبر أن الإخوان المسلمين انحرفوا عن النهج الشرعي وأن المعارضة الميدانية التي يقودها في سورية لا تقارن بمعارضة الفنادق والإعلام. بإيجاز، قتل (ناعم) على يد النصرة (المعتدلة) بالمقارنة مع تطرف داعش وأسلوبه الخشن.

حروب سورية في عامها الخامس متشابكة بين نظام متماسك تجمعه المصيبة ومعارضة منقسمة، جامعها إسقاط النظام، وفي ما عدا ذلك الحروب مشتعلة، لا أفق لها ولا حدود: حرب أهلية سلفية بين الجولاني والبغدادي، وأخرى بين السلفيين والإخوان، ونزاعات تحركها العصبيات المذهبية والإتنية والقومية والعشائرية والمناطقية. بكلام آخر، كل حروب الماضي والحاضر ما عدا حرب واحدة جمعت العرب في زمن مضى لتحرير الجولان وفلسطين.

لا حلول ممكنة لحروب سورية في المدى القريب، ولا دول جديدة، بل ربما دويلات أمر واقع. الرابح خاسر والخاسر مصيره كالرابح. الصراع على سورية متواصل في الجغرافيا والتاريخ والسلطة وبين (المؤمنين) و (الكفار). الأزمة السورية أكثر تعقيداً من الأزمات (الشقيقة) في المنطقة. سورية الكبرى حلم مستحيل، والصغرى واقع غير متاح، وبين الاثنين مزيد من الإبادة والفرز المذهبي والديني والمناطقي. أما المشترك فهم الناس العزّل، ضحايا الحرب ووقودها.

فريد الخازن

(السفير، 13/6/2015)

خريف (سلطان) البارانويا

1

البارانويا (جنون العظمة) خسرت جولة في تركيا، وأكدت من جديد أن فوضى الإقليم في انتظار زعيم أو حزب أو جماعة أو مؤسسة لديها جنون عظمتها، لإنقاذ دولة أو العبور بها من (اللحظة الفاصلة) لم تعد فاعلة، كما لم يعد للمتوهمين في ذواتهم مكان كبير، ربما يصعدون كأقراص فوارة، موضات سياسية، لكنهم سرعان ما يسقطون أو تخبو أحلامهم بأسرع مما يتوقع أشد خصومهم عداوة.

أردوغان حركته البارانويا من صورته كرجل طيب/ يقود بلاد حكمتها وحوش عسكرية، إلى وحش كامن يبتلع الدولة كلها ويحولها إلى حديقة الحزب وامتداداته الإقليمية والدولية.

تبخر حلم أردوغان بإعادة تأسيس الدولة، لتتخلص من إرث أتاتورك، بما يوحي بأردوغانية أو سلطنة جمهورية ترعى ألوية الهوياتية في المنطقة… وتفرض بالديمقراطية استبداداً شرقياً/غربياً… إسلامياً/ حديثاً… في موديل تتآكل فيه الديمقراطية لتصبح أداة اكتساح الأغلبية تحت رايات الهوياتية في الداخل/ ومن الخارج في إطار الدوران في الفلك الرأسمالي اقتصادياً وعسكرياً عبر الخدمة في الناتو.

هذه المهام ذات الملمح الرسولي كانت وراء طغيان الوهم على السياسة بعدما وصل أردوغان إلى قصر الرئاسة، وبدا له حلم تحول تركيا إلى نظام رئاسي قريباً… هذا الحلم الذي يعوض خسارته كراعي للتجربة الإخوانية في العالم العربي.

التصويت سحب من أردوغان رصيده الذي كان سيسمح له بتأسيس إمبراطورية رئاسية. بمعنى ما، أدوات الديمقراطية أوقفت غشم سلطويته. أو حاصرتها في مواقعها القديمة لتبقى سلطوية كلاسيكية لا استبداداً معاصراً يدمج الديمقراطية في أحلام دولة الهوية المسيطرة.

وفي الوقت الذي أبقت فيه الانتخابات على السلطويات المنافسة (الكماليين والقوميين) في حدودها التقليدية، فتحت الأبواب أمام صعود الأقليات مع وصول حزب (الشعوب الديمقراطي) إلى نسبة الـ13% بعدما انتقل من حزب (الجالية) الكردية/ إلى حزب ينفتح خارج الهوية على طبقات اجتماعية بعيدة عن التأثير.

وخسارة البارانويا وانتصار الأقليات مؤشر ليس هيناً على فشل موديل الدولة القائمة على الفرد.. فأردوغان حوّل حزبه إلى مخزن أحلامه، منتقلاً من خانة السياسة (رئيس حزب يقوم على الطبقة الوسطى القادمة من الريف) إلى الوصاية (المبشر والداعية إلى دولة خلاص أيدلوجي… دينية من قلب التركيبة العلمانية)… وترسخّت عبر 13 عاماً صورة أردوغان الكامنة خلف نجاح سياسي صنعته روشتات اقتصاد مغامر/ فوار يقدم انتعاشات سريعة لكنه لا يؤسس بنية اقتصادية.

هكذا خسر أردوغان فائض جنون عظمته…

2

لن يحكم أردوغان وحده

هكذا فقد نجمُ الموسم الإسلامي القدرة على تحديد أرض الصراع. أو اختيار المعركة… وبعدما كان مبشراً بالمعجزة (الإسلام + الديمقراطية) أصبح شيطاناً تضيق المسافة الافتراضية بينه وبين أممية الجهاد آكلة الدول.

تعامل أردوغان على أنه (أسد) الإخوان المسلمين الذي يدافع عن (دولتهم المفقودة)… وهو ما ضيع منه مهارة كبيرة في إخفاء (الانتماء التنظيمي) و(الجمود العقائدي) في لحظة تختار الأكثر خفة وقدرة على تجاوز الحدود الضيقة.

لم يعد أردوغان أملاً وإنما أزمة… فسدت خلطاته السرية وافتقد مهارات اللاعب السياسي/الساحر المنتظر. وأصبح أميراً إيديولوجياً يدافع عن تنظيم/ أممية، وبدا في ميله الحربي ليس رجب الطيب القادم من حزب إسلامي لكنه جنرال أكثر من الجنرالات.

 

3

أحلام أمراء إيديولوجيا الخلاص أو أوهامهم… كانت محور التصويت.

ملايين قررت منع أردوغان من شعوره بجنون العظمة، والأهم أنها قفزت فوق استقطابات (إيمان/ كفر) المعادل لـ (إسلام/ علمانية)، وعبرت عن تحول في المزاج العام كفيل بإنهاء أحلام الأمير الإيديولوجي.

هذا التحول أكثر تعقيداً (من الاستقطابات التي كانت تفوز فيها ديماغوجية أردوغان) وهو مرتبط بتركيبات المجتمع وموقع الفرد العادي في حروب الهويات.

تفكيك السطوة الأردوغانية اعتمد على تفتيت الكتل الضخمة (من ريف الأناضول غالباً)، وصعود التصويت الفردي، أو كما يبدو أنه اتجاه جديد، لتيارات تمثل ديمقراطية (ذات طابع مجتمعي) ليس منظماً فيها إلا حزب (الشعوب الديمقراطي) الذي يمثل صعوده إشارات إلى موديل جديد من سياسيين أذكياء (متمثلة في صلاح الدين ديميرطاش)، ينتمون إلى شبكاتهم الاجتماعية، لكن في ظل تعدد المجتمع لا محاصصة طائفية… وليس باعتباره أمير هوية مضطهدة، بل بتمثيله لقطاعات تعاديها السلطويات الإسلامية والعسكرية على السواء (المرأة والمثليين..) إلى جانب الفقراء، وهناك إشارة إلى ما يمكن أن تكسبه الأقلية الكردية من قدرات على الخروج من مكامنها الضيقة، أو مظلوميتها الممتدة، إلى أفق جديد مع تفتت الاستبداد القديم بمحموله المعادي للأقليات أو للمنتهكة حقوقهم… وهنا سيصبح الأكراد (بحروبهم ضد (داعش) وبزحفهم في صراع الصناديق) طرفاً في تشكيل مستقبل المنطقة.

وائل عبد الفتاح

(السفير، 9/6/2015)

العدد 1104 - 24/4/2024