داود حيدو ما زال بيننا… ومعنا

من الناس أشخاص يتعمق الشعور بفقدهم مع مرور الأيام، ورغم غيابهم جسداً يبقى حضورهم معنا مثلاً ونبراساً وفكراً حياً وملهماً. هكذا كان وهكذا سيبقى الدكتور الرفيق داود حيدو.

تعرفت على الرفيق داود في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وكانت أزمة انقسام الحزب الأولى في أوج حدتها، ولم يكن الرفيق داود حينئذ يخفي أسفه وألمه لهذه الأزمة من ناحية، ورغبته وسعيه لإعادة الوحدة للحزب من ناحية أخرى، وفي جميع الحالات ظل محافظاً على علاقة طيبة واحترام لجميع الرفاق، بغض النظر عن مواقفهم وآرائهم.

إلا أن علاقتي مع الرفيق داود توطدت، وأخذت بُعداً جديداً منذ أن أصبحنا عضوين في المكتب السياسي للحزب، متلازمين في الجلوس جنباً إلى جنب أثناء اجتماعات المكتب خلال السنوات العشر الماضية. وحتى بعد أن وقع خلال العامين الأخيرين، ضحية المرض، الذي كان يحول دون حضوره اجتماعات المكتب السياسي. كنا نحرص على أن يبقى مقعده إلى طاولة الاجتماع خالياً، في توقع  وأمل  أن يفاجئنا بحضوره، فيكسب الاجتماع غنى وألقاً لم يكن لأحد غيره أن يضفيه.

ومع أن الدكتور داود عُرف واشتُهر بأنه متخصص وعالم بالاقتصاد، إلا أن واقع الحال هو أن ذلك لم يكن يمثل سوى جانباً واحداً من شخصيته. فالدكتور داود كان أولاً وقبل كل شيء مناضلاً شيوعياً من الطراز الأول، وهو الأمر الذي وسم جميع مراحل حياته وجوانبها المتعددة منذ يفاعته وسنوات دراسته، سواء داخل القطر، أم لاحقاً في ألمانيا الديمقراطية، أم في خلال تبوئه المسؤوليات والمناصب المختلفة في الحزب (في اللجنة المركزية، ثم في المكتب السياسي) وفي الدولة (وزيراً  ومستشاراً في رئاسة مجلس الوزراء  ومديراً لمكتب تسويق النفط وغيرها..)، فهاجسه الذي كان يسري في دمه، كان دائماً مصلحة الحزب والشعب والوطن. وكان ديدنه الإخلاص بلا حدود للمهمة التي ينفذها، فضلاً عن علمه وخبرته وكفاءاته ونزاهته نموذجاً للشيوعي الحقيقي. الأوّلية دائماً، كيفما فكر أو كتب أو عمل، هي للدفاع عن الوطن وحريته وسيادته، وتحرير الأراضي المحتلة، وعليه ينبغي إخضاع كل المهام الأخرى لهذه الغاية المقدسة.

لم يكن الدكتور داود اقتصادياً أكاديمياً معزولاً عن الحياة الواقعية في المجتمع والبلاد. فالاقتصاد لديه هو أولاً وقبل كل شيء سياسة، والسياسة كذلك لا يمكن أن تبحث بمعزل عن الاقتصاد، وحين نتعمق في الاقتصاد ندخل في صلب ممارسة مختلف القوى السياسية، وفي رؤية المصالح المختلفة والمتناقضة للقوى الطبقية والاجتماعية. وهو هنا لا يبقى في المجرد من التحليل، بل يتعمق في تفاصيل التفاصيل كي يصل إلى أقرب ما يمكن من الدقة في الاستنتاج.

وحين يبحث الدكتور داود في الاقتصاد فهو ينطلق من المنهج الماركسي المطبق بشكل مبدع وخلاق على ظروف بلادنا. بوصلته هي الموقف الطبقي، المنحاز دائماً وأبداً إلى مصالح الجماهير الكادحة، حقده عميق على الإمبريالية والصهيونية، وممثليهم وسياساتهم الليبرالية في العالم، وطُغَمهم الحاكمة والمسيطرة في البلدان النامية. عداؤه مستحكم للمستثمرين، ولا مساومة مع الفساد والفاسدين والمفسدين في الأرض.

الإنسان بشكل عام والمواطن بشكل خاص  حريته..كرامته..حياته.. معيشته.. هناؤه.. أمنه..مستقبله- هو الغاية والمرتجى من كل سياسة أو اقتصاد، ومن هذه الزاوية كان مدافعاً حازماً عن دور الدولة التنموي للاقتصاد، والرعائي للمواطن، من جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من ناحية، وعن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية أخرى.

وتنطبق على الدكتور داود المقولة التي تفيد بأنه كلما اغتنى المرء علماً وحكمة، ازداد تواضعاً وبساطة. وهو رغم صلابته وتشدده في الدفاع عن القضايا ذات الطابع المبدئي على صعيد الحزب والوطن، فقد كان واسع الصدر، محترماً للرأي الآخر، وهو في جميع الأحوال ملتزم بما يقرره الحزب، حريص وساع إلى وحدته.

دائماً وأبداً كان الرفيق داود الإنسان الطيب المحب والودود سواء في محيط عائلته أم بين الأصدقاء والرفاق في الحزب الذي ما تخلى حتى آخر لحظة من حياته عن الثقة به والإيمان بمستقبله ومستقبل الشعب والوطن.

 

29/5/2013

العدد 1107 - 22/5/2024