الخصوصية السورية تقديراً لطهارة الدماء

إن عودة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت في العقدين الماضيين وتكرست وحاولوا تجذيرها في حكومة العطري والنائب الاقتصادي الدردري، وما زالت خطوطها العريضة أساساً لقيادة التنمية عموماً، ولتهيئة الدولة لكل الظروف القادمة، هو نكران للدماء الطاهرة التي سقطت، وللصبر والتحدي الذي أعطى به دروساً شرفاء ووطنيو سورية، والتحمل الكبير والتعالي على كل المعاناة من فقر وجوع وألم ودم ودموع، وكذلك هو انتصار لحيتان الفساد الذين همهم كان حرف الصراع بعد أن نهبوا وسرقوا وسخَّروا القوانين والمؤسسات لخدمة مصالحهم، وعقدوا الاتفاقات التجارية وأدخلوا البلد في شراكات ومعاهدات تجارية على حساب الوطن وحتى على السيادة الوطنية لتقوية نفوذهم وزيادة أموالهم. هذه الأموال التي هرَّبوا الجزء الأكبر منها وتركوا الباقي للّعلب بالليرة ولاحتكار السلع والمضاربة بالليرة وبأغلب السلع للمساهمة بالإرهاب الاقتصادي الذي هدفه تدمير سورية بكل بنيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كمدخل لتهشيم الدولة وقتل الشباب والكفاءات والمفكرين للتخلص مما يملكه هؤلاء من معارف وأفكار إبداعية قادرة على إعادة البناء وتعرية هؤلاء وأمثالهم.

 إن إعادة نهج الدردري وفريقه القائم على إضعاف دور الدولة عن طريق سحبها من الحياة الاقتصادية، وذلك بتحرير التجارة وتحرير الأسعار وتخسير القطاع العام وسحب ما يسمى الدعم عن أغلب السلع ورفع سعر حوامل الطاقة وفرض الضرائب والرسوم، وتشجيع النفس الاستهلاكي عبر التلوث الضوئي وتسخير القروض كتسهلات مغرية لمثل هذا السلوك، لخدمة التجار وتسويق لبضائعهم لاستمرارية الاستيراد وتشجيع النمو القائم على الربح السريع عن طريق القطاعات الريعية وتصفية القطاعات الإنتاجية، وهو ما كان من خلال تحجيم دور القطاع العام ومؤسساته. ومنها مؤسسة التجارة الخارجية، من أجل إبقاء السوق لبعض التجار الذين يتحكمون بالأسعار وقدمت بعض البنى التحتية للقطاع الخاص عبر اتفاقيات ظاهرها تشاركية وحقيقتها تقديم أرباح مضمونة له، كان يمكن للقطاع العام ضمن ما هو قائم أن يحققها. فكيف إن كان هناك إصلاح فقد كان هناك إقحام لبعض فئات الرساميل كهدية بأمور تستطيع الدولة القيام بها، فكيف نكون ضد احتكار الدولة لشيء ما ليحتكره بعض الأشخاص؟ ولماذا لا تكون تنافسية وهي جوهر ما يسمى الليبرالية؟ إن هذه السياسات أضعفت البنى الإنتاجية وهشمت البنى الاجتماعية وسحقت الطبقة الوسطى وزادت الفقر والبطالة وأدت لانحلال قيمي وأخلاقي مهَّد البنى لتكون قابلة لأي حرف من خلال التجهيل والتضليل للعقول، بمساعدة وسائل إعلامية بذلت لتقويتها كل الجهود وصرفت الكثير من الأموال.

وفي ظل الأزمة وبعد تحميل سياسات الدردري جزءاً كبيراً من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي مهدت الأجواء للامتعاض والتململ والاحتجاج والانقسام، أجريت بعض الأمور الاقتصادية والاجتماعية، ومنها إعادة سعر المازوت لسعر 15ل..س وزيادة الأجور وإعطاء منصب النائب الاقتصادي لشخص له برنامج معاكس لنهج الدردري ويؤمن بدور الدولة وبالعدالة الاجتماعية، ولكن بعد فترة اتضح السير السياسة نفسها وبشدة أكبر، إذ رفع سعر ليتر المازوت إلى 60 ل.س والبنزين إلى 80ل.س، ورفعت الرسوم والضرائب. وعلى الرغم من إنشاء وزارة لحماية المستهلك كان هناك انفلات للأسعار من دون مراقبة، مما مهد للتضخم الرهيب وترافق بارتفاع الدولار مما هدد بانهيار اقتصادي مخيف وامتعاض جماهيري، إذ ارتفعت مستويات الفقر إلى درجات كبيرة. وكان عنوان هذه الفترة محاباة المحتكرين والأموال المضاربة على حساب البلد والشعب وعدم مراعاة الظروف التي تعيشها سورية والإسراع بفرض القرارات عن طريق الصدمة من دون معرفة نتائجها وتقدير الظروف القائمة، حتى حصل تدخل قوي من الدولة لوقف التدهور عبر إعادة الليرة إلى سويتها بالتدريج والتدخل بالعرض السلعي لعودة الأسعار.

طبعاً الآن الظروف استثنائية، ولكن يجب من الآن التخطيط الاستراتيجي لما بعد انتهاء الأزمة لبناء سورية وإعادة الألق لسورية وللاقتصاد السوري، عبر نهج اقتصادي يراعي الظروف السورية والوضع الحالي، ويعيد القوة للدولة للإمساك بخيوط الاقتصاد عبر إعادة الاعتبار للقطاع العام، عبر البدء بإصلاح معامله المخسرة أو التي وجهت يد الإرهاب لتدميرها بما يحقق ما عجزت عنه سياسات القتل والتخسير. وكذلك تهيئة المؤسسات الإنشائية لمرحلة إعادة البناء التي يجب أن تؤلف لها اللجان في كل منطقة متضررة لحساب حاجتها من المواد الأولية كالحديد والأسمنت والمواد الأخرى، ووضع الخطط لتأمينها من قبل الدولة أو عبر الاعتماد على بعض الأموال الخاصة لمن لم يخن بلده ويتاجر بها. وكذلك وضع دراسة لإعادة سعر المحروقات لاحقاً، ودراسة إقامة مصفاة كما درس منذ سنوات وفرض إلغاؤه. وتفعيل دور الجمعيات السكنية والإسراع بتوزيع الأراضي لزيادة المعروض من دور السكن كتهيئة لعودة بعض النازحين وإعادة تفعيل دور مؤسسة التجارة الخارجية والاقتراض الداخلي الأهم عند الحاجة، ومحاولة تفشيل أي دور للمصرف الدولي في أي عملية إعادة بناء لأنه سعى ويسعى لربط سورية ومستقبلها بسياساته التي تنتهك السيادة الوطنية، وكذلك أن تكون الاتفاقات تراعي المصلحة الوطنية ولا تحابي أشخاصاً تؤدي للقضاء على حرف وصناعات وطنية ولا تقترب من استقلال القرار الذي يؤدي لتنمية مستقلة مستمرة.

 وكل ذلك لن يتم بلا معايير جديدة للكوادر النظيفة الوطنية بعد أن كان سوء استثمار وتعيين الموارد البشرية أس الفساد الذي وصلنا إليه، والذي لا بد من الإطاحة به من أجل التوصل إلى حل وطني لعلاج هذه الظاهرة.

وأخيراً نقول يجب أن تكون الدولة القائدة المركزية لكل عمليات البناء الاقتصادي والاجتماعي من دون إلغاء دور القطاع الخاص الوطني وأموال المغتربين، للاستفادة من المزايا المطلقة والنسبية التي تتميز بها سورية من مواد طبيعية وخام، ومن كوادر بشرية وموقع جغرافي وجمالية وتاريخية جعلها من أهم البلدان السياحية هذه السياحة، التي كانت تدر 9 مليارات الدولارات سنوياً، وإذا أعيدت هيكلة نشاطاتها تتضاعف هذه المحصلة.

العدد 1105 - 01/5/2024