من كلمة الرفيق وصفي البني عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري بمناسبة الذكرى الثلاثين للانتصار على الفاشية

ألقى الرفيق وصفي البني، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري، عضو عصبة مكافحة النازية والفاشستية، كلمة في الاحتفال الشعبي الجماهيري الذي دعا إليه الحزب الشيوعي السوري في التاسع من أيار عام 1975 بمناسبة الذكرى الثلاثين للانتصار على الفاشية قال فيها:

 

أيها الضيوف الأعزاء!

أيها الرفاق والرفيقات، أيها الأصدقاء والصديقات!

في مثل هذا اليوم، لثلاثين عاماً خلت، تنفست الإنسانية الصعداء، ففيه تكرس النصر رسمياً، على الفاشية، عدوة الشعوب، فيه وقّع الباقون من كبار قادة جيش ألمانيا النازية على وثيقة الاستسلام، بدون قيد أو شرط، بعد أن كان الجيش الأحمر قد أكمل عملية الاستيلاء على وكرهم الأخير، برلين.

وقد كان طبيعياً تنفّس الإنسانية الصعداء هذا.

فالفاشية هي، في الداخل إعلان الرأسمالية الاحتكارية عجزها عن الاستمرار في الحكم بالوسائل الديمقراطية، وبالتالي هي ممارسة الحكم، دكتاتورياً، بوسائل الإرهاب المنفلت من عقاله، بقمع الحريات الديمقراطية والحقوق الإنسانية، المسجلة كلاماً فارغاً في الدساتير، هي الاغتيالات والاعتقالات والإعدامات، بدون محاكمات أو بمحاكمات صورية، لأصلب المناضلين في سبيل هذه الحريات والحقوق، هي عمل كل شيء وارتكاب كل جريمة دفاعاً عن مصالح وأطماع طغاة المال والاحتكار وكبار الملاكين العقاريين على أيدي سلطات وأجهزة قمعية تخدم سياسة تلك الحفنة من المستغلين، مدعية، في الوقت نفسه أنها تعمل لمصلحة (الأمة كلها)!

والفاشية هي في الخارج: الحروب العدوانية التوسعية من أجل نهب ثروات البلدان المستضعفة واسترقاق شعوبها، وتجنيد أبناء هذه الشعوب، مرتزقة، تدفعهم مع أبناء شعبها أنفسهم، ليكونوا طعاماً للمدافع في هذه الحروب العدوانية التوسعية. وهي أيضاً اصطناع- على طريقة جميع المستعمرين- ل(حكامٍ) عملاء من رجعيي البلدان المحتلة، من أمثال كويزلنغ النروجي، ليكونوا مطية طيعة للفاتح الأجنبي وأداة شرسة لحكمه الإرهابي.

والفاشية هي، في الداخل والخارج، سحق لحرية الفكر، ومحاربة للعلم، وإحراق للكتب ذات النزعة الإنسانية، ونشر للغباء الفكري والسياسي، تحت شعارات العودة إلى (تراث) الماضي السحيق، في سبيل وقف تقدم المجتمع البشري والعودة به إلى عهود الظلام والهمجية، وهدف الفاشية من كل هذا هو تمكين ملوك المال والصناعة الكبيرة من الاستمرار في استغلال عرق كادحي بلادهم وشعوب البلدان الأجنبية المستبعدة وكبح نضال أولئك وهؤلاء في سبيل التحرر الاجتماعي والوطني.

لذلك، أيها الرفاق والأصدقاء، تحتفل الإنسانية التقدمية، اليوم في كل بقاع الأرض، هذه الاحتفالات المهيبة بالذكرى الثلاثين للنصر على الفاشية.

 

أيها الرفاق والأصدقاء!

إن راية النصر التي رفعت فوق الريخستاغ لم تكن نسيجاً من خيوط عادية، لونت بالأحمر، بل كانت نجيعاً من دم تحول إلى نسيج تمتد خيوطه إلى جراح عشرين مليون مواطن سوفييتي، شباناً بعمر الورد، وفتيات بنضارة الزنبق، وكهولاً كنوز خبرة ومعرفة، وشيوخاً وعجائز وأطفالاً لم يوفرهم قطيع الذئاب المدرعة الزاحفة نحو (المدى الحيوي) للطاعون الأسود..

ولقد كان هذا الدم، الذي تحول إلى نسيج، ممتزجاً بآثار من دخان وغبار ألوف وألوف المدن والقرى السوفييتية التي دمرها وأحرقها البرابرة النازيون في طريقهم إلى (النصر) السرابي الذي كانوا يندفعون إليه اندفاع البهائم نحو المسلخ.

وتحت هذه الراية أنجر عشرات الملايين من الكادحين السوفييت تعليم لينين العظيم القائل: (إن الاشتراكية هي سلطة السوفييت زائد كهربة البلاد كلها)، فبهذه الكهرباء شغل الكادحون السوفييت الألوف من منشآت الصناعة الثقيلة التي بنت الآلات والأدوات لعشرات الألوف من المعامل التي وفرت للمواطنين الغذاء والكساء والسكن، وأنتجت للمزارع التعاونية والحكومية الجرارات ومختلف الآلات الزراعية والأسمدة، وزودت الجيش الأحمر بكل ما احتاج إليه من دبابات وطائرات ومدافع وصواريخ يسرت له، إمكانية الصمود في وجه الجحافل الهتلرية ثم النصر الساحق عليها في الوكر الذي انطلقت منه.

وبعد، أيها الرفاق والأصدقاء، لقد كان مجيداً وعسيراً، في سلسلة ولادة التاريخ لمنعطفاته الكبرى، درب الجيش الأحمر إلى برلين. ومليئاً كان بالآلام الجسام وبالمآثر العظام: من التراجعات المريرة الاضطرارية الأولى عن مساحات شاسعة من أرض وطن الاشتراكية البكر، إلى الدفاع البطولي الأسطوري عن لينينغراد وموسكو وستالينغراد، إلى الهجوم المظفر الكاسح المحرر للملايين من المواطنين السوفييت والملايين من أبناء البلدان التي اجتاحتها قطعان الفاشية في أوربا الشرقية والوسطى، إلى رفع راية النصر الحمراء فوق الريخستاغ.

وطويلة وثقيلة الخطوات كانت المسيرة الزمنية من حزيران 1941 إلى أيار ،1945وما كان تقويمها الزمني ليحسب بالشهور والأيام، بل بالساعات والدقائق.

وطبيعي، أيها الرفاق والأصدقاء، أن البلدان العربية لم تكن خارج نطاق هذه المعركة التاريخية الحاسمة. فالضواري الإمبرياليون الذين تقاسموها، بعد الحرب العالمية الأولى، كانوا يتوجسون خيفة على مواقعهم فيها من أنياب الوحش النازي الذي كان قد بلغ جبال القفقاس في طريقه إليها من الشمال عبر أراضي حليفته تركيا، والذي كانت أذناه المنتصبتان في العلمين على أبواب مصر، تسمعان بجلاء صيحات عملائه والمخدوعين به في الإسكندرية تصيح مستحثة خطاه: (عجّل يا رومل عجّل)!

فقد استغل الفاشيون الحقد المقدس والنقمة المشروعة لدى الجماهير الوطنية العربية على مضطهديها ومستثمريها، المستعمرين الفرنسيين والإنكليز وعلى عملائهم الكريهين، من أمثال نوري السعيد في العراق، لكي يوقعوا في أحابيل دعايتهم السّذّجَ من الناس الآخذين بقول: (عدو عدوك صديقك) دون انتباه إلى أن (عدو العدو) المزعوم هذا لم يكن يهمه قط مصير ساكني أرض النفط أو أهالي منطقة قناة السويس، بل يهمه فقط أن يستولي هو نفسه على الثروات النفطية في أرض العرب، وأن يسيطر هو نفسه على قناة السويس. ففي مؤتمر الحزب الفاشي الذي عقد في نورمبرغ، عام ،1937 طالب هتلر بإعطاء ألمانيا العراق وفلسطين وسورية وشرق الأردن والكويت ومصر. وأثناء محاكمة مجرمي الحرب في نورمبرغ ذاتها قرئت وثيقة موجهة من المراقب العام لتشكيلات (الرأس الميت) راوف إلى ضباط الوحدات الهتلرية المعدة للاستيلاء على الشرق الأوسط تقول: (يجب تشجيع الشقاق والريبة بين الشيعة والسنة، بين المسلمين والمسيحيين. وبالطبع، سنستخدم بعض المتحدرين من هذه الجماعات والقوميات ضد البعض الآخر على شكل مستخدمين صغار لدى البوليس ورؤساء البلديات، ولا ينبغي السماح بالمعارضة إجمالاً في الأراضي المحتلة. وعلى الذين وقفوا في وقت ما، ضد سيطرة الإنكليز والفرنسيين أن يفهموا أنهم سيصبحون عبيداً لأسياد آخرين).

ذلك هو المصير الذي كان يهيئه للعرب من كانت تسميه الدعاية الهتلرية (عدو العدو)!

وهذه الحقيقة التي خفيت، في البداية، على بعض الوطنيين العرب، أخذت تتكشف، أكثر فأكثر، مع تطور أحداث الحرب العالمية الثانية، لاسيما بعد هجوم النازيين الغادر على الاتحاد السوفييتي، وانفضاح أمرهم بوصفهم أعداء طبقيين ألدّاء لبلد الاشتراكية الأول، ومجرد منافسين للدول الاستعمارية.

وهكذا أخذ يزداد باطراد، في البلدان العربية، عدد الوطنيين الذين يقفون، على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، منذرين من خطر الفاشية وداعين إلى رصّ الصفوف في مواجهة هذا الخطر. وعلى هذا الأساس تشكلت (عصبة مكافحة الفاشستية والنازية في سورية ولبنان)، التي لعبت في هذا الميدان، مع مجلتها (الطريق)، دوراً ملحوظاً ومعترفاً به في الأوساط الوطنية والتقدمية العربية والعالمية.

ولم تكن يسيرة تلك المعركة السياسية التي خاضها الوطنيون العرب الواعون ضد الحملة الجامحة الخبيثة التي كان يشنها دعاة الفاشية، المأجورون منهم والمخدوعون.

العدد 1105 - 01/5/2024