مؤسسات المجتمع المدني… وجودها وتكامل دورها من مظاهر الدولة الحديثة (2 من 2)

غرامشي… والمجتمع المدني

1 كيان مستقل مقابل الدولة ومؤسساتها، لمنعها من التمدد خارج دائرة الدستور والصلاحيات القانونية، مما يساعد الشعب على مواجهة مظاهر الاستبداد للدولة، ويمنح المواطن دوراً حقيقياً ومؤثراً في المجتمع.

2 مؤسسات المجتمع المدني مستقلة عن السلطة السياسية وهي مؤسسات وسيطة بين المجتمع والدولة، تهدف للدفاع عن حقوق المجتمع وتطلعاته.

ويلعب هنا دور الأحزاب السياسية كأحد مؤسسات المجتمع المدني في تنفيذ مهام (الوسيط/ بين الشعب والدولة).

لم يكن غرامشي مهتماً كثيراً بالفصل بين الحيّز السياسي من ناحية والحيز الاقتصادي الاجتماعي من ناحية أخرى، بقدر ما كان مهتماً بالإصلاح الأخلاقي والمعنوي والثقافي، بالمعنى الاجتماعي الذي يشكل شرطاً لا بد منه للقرار الاجتماعي. وسواء رد مفهوم المجتمع المدني إلى حقوق المواطن والمواطنة، أو إلى الحوار والمواجهة بين المجتمع المدني السياسي، إذ تحتويهما بنية واحدة، فإنه لا ينفصل في تاريخيته عن قضايا الثورة البرجوازية الأوربية بما يوحدها ويصححها ويتجاوزها أيضاً.

كما رأى غرامشي: (أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تشعل فتيلها الأزمة الاقتصادية الرأسمالية فقط، وإنما المعطيات الثقافية والسياسية وربما الروحية في بعض الحالات الأخرى، فتحولات المجتمع المدني من حيث بروزه وقوة تأثيره وقدرته على إحداث تغيير لا بد أن تكون مستقلة عن القاعدة الاقتصادية).

ويتضح من خلال نظرة غرامشي أن المجتمع المدني ليس لديه مجال للمنافسة الاقتصادية، كما أبرز كل من هيغل وماركس، بل إنه مجال للمنافسة الأيديولوجية.

وفي كتابه (الأمير الحديث أو دفاتر السجن)، يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي التأثير التدريجي والفكري على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية.

فالمجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة المباشرة.

لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها في العمل في إطار المجتمع المدني، فهو جزء من العمل في إطار الدولة، لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا ارتبط بمشروع طبقي سياسي.

ويمكن القول إنه رغم التباعد في الأزمنة التي تفصل نسبياً بين روسو، وجان لوك، وهيغل، وماركس، وغرامشي، واختلاف بعض وجهات النظر، فإن جهودهم جميعاً تدفع باتجاه تحقيق جوهر الإنسان، وهي مساهمة نظرية بالمعنى الدقيق للكلمة، ومشروع سياسي تحرري إنساني ونبيل.

العالم العربي ومنظمات المجتمع المدني

بدأ المجتمع المدني بالتموضع فعلاً في السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر بتأثير أوربي، إلى حد ما، وتجاوب من قبل السلطان العثماني مدحت باشا الذي بدأ يومذاك راغباً في إجراء إصلاحات في الدولة العثمانية لتنشيطها، وقد بدأ الوهن والمرض يتحكمان في مفاصلها، وبدأ ظهور بعض الجمعيات في عاصمة السلطنة، ثم في المدن الرئيسة في الشرق: في حلب ودمشق وبيروت وصيدا وغيرها، ونشطت حركات التجمع المدني في مدن أخرى.

وقد بلغت مؤسسات المجتمع المدني المشرقي عصرها الذهبي في أوائل القرن العشرين قبيل الحرب العالمية الأولى، وكان ظاهر تلك المؤسسات اجتماعياً، لكن قالب معظمها كان سياسياً، ولعب عدد قليل منها أدواراً محلية وإقليمية وحتى دولية. وصمدت هذه المؤسسات إلى ما بعد الحرب، رغم الظروف الصعبة التي مرت بها، فاستكملت ما بعد الحرب نشاطها بقوة في نشر الوعي، وكانت خير ملاذ للملك فيصل لإرساء مملكة دستورية، وكانت النقاشات والمفاهيم حول مؤسسات المجتمع المدني قد تبلورت أكثر.

ويتفق المفكرون أن المجتمع المدني بمفهومه المعاصر هو: مجموعة المنظمات المستقلة وغير الحكومية التي تمثل شكلاً من أشكال التضامن والتعاون بين المواطنين، والعمل معاً  من أجل قضايا مجتمعية ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو إنسانية.. مثل:

نقابات العمال، النقابات المهنية، منظمات تدافع عن حقوق المرأة ومساواتها  اتحادات الكتاب، النوادي الرياضية، جمعيات لحماية البيئة، الآثار، حماية المستهلك، والهدف تحسين التوازن الاجتماعي، وضمان التوازن بين الدولة والمجتمع.

أما الأحزاب السياسية فهي تسعى للقيام بدور سياسي للوصول إلى السلطة أو المساهمة في تشكيل السلطة، فتصبح جزءاً من المجتمع السياسي المدني إلا أنها تقف على بعد معين من مؤسسات المجتمع المدني رغم وجود العديد من الصلات والقضايا المشتركة ورغم أنها من مكونات المجتمع المدني.

وقد ميز لينين في حينه بين دور النقابات ودور الحزب ومهمات كل منهما، واعتبر أن عضوية النقابات ضرورية للعمل. أما الحزب فيمثل الشكل الأعلى لتنظيم الطبقة العاملة.

ومن الغرابة أن يجتهد أنصار المجتمع المدني في البلدان العربية في الدفاع عن شعارات مجردة ولا يجتهدون في تأمل الأرضية التي يطبق عليها، والذي يحتضن سلطان ضعيفة ومجتمعات أكثر ضعفاً وتخلفاً، مجتمعاً بعيدة عن الأزمنة الحديثة.

فالمجتمع المدني لا ينفصل عن دولة قوية، تقبل بالفصل، وهو فصل نسبي، بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي وتوحدهما معاً.

وواقع الأمر أن الجمعيات الأهلية في مجتمع عربي يشكو من التفكك، والتداعي، تنتهي إلى تأطير شكلاني بائس التنوع الاجتماعي، إذ تذهب كل جماعة إلى جماعتها، وينتهي كل فصيل ديني إلى الفصيل الشكلاني المعبر عنه.

إن المطلوب هو إيقاظ الاهتمام بالسياسة لا إحالة القضايا المجتمعية إلى ذوي الاختصاص، حيث المثقفون يستأثرون بالاختصاص السياسي طاردين الناس مرة أخرى خارج السياسية بعد أن طردتهم السلطات منها.

ومع أن المثقفين المأخوذين بالعولمة وبما بعد الحداثة لا يميلون كثيراً إلى عصر التنوير العربي، وإشكالاته الفكرية الكثيرة، فإن العودة إلى المفكرين أمثال الطهطاوي وقسطنطين زريق، وعبد الرحمن شهبندر، وطه حسين وغيرهم تبدو ضرورية.

فقد أدرك هؤلاء المفكرون في حدود أزمنتهم، (أن التطور والنهضة والارتقاء أهداف بعيدة لا يتم الوصول إليها بعد مسار إصلاحي طويل يتضمن التعليم والصحافة والدستور واللغة. فالمجتمع المدني لا ينبثق من ركام البشر، ولا من الضعفاء، بل من إنسان أتاح له الإصلاح الاجتماعي المتدرج أن يظفر بشخصية واعية راقية ترتقي إلى مستوى الوطن والمواطنة وحقوق المواطنين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولا يحتمي بمراجعه العائلية الضعيفة التي تطوح به بعيداً عن الوطن والمسؤولية الاجتماعية والأزمنة الحديثة).

1 إن انتماء الأفراد إلى مؤسسات المجتمع المدني ينبغي أن يكون طوعياً وليس بالإكراه.

2 إن قضية المرأة وتمثيلها في مؤسسات المجتمع المدني، وهي تمثل نصف المجتمع العربي وأكثر، من أهم القضايا المحلة في المجتمعات العربية، فطاقاتها ضرورية لتفعيل هامش المشاركة.

3 ما يميز المجتمع المدني هو معارضته بقوة لوجود ميليشيات مسلحة وغير مسلحة، لتوفير الأمان في الشارع السياسي والسماح للحياة السياسية بالانتعاش.

وأخيراً لا بد من التأكيد:

إن مؤسسات المجتمع المدني تقوم كحاجة طبيعية للمجتمع في علاقته مع الدولة.

إن نمو المجتمع المدني نمواً صحياً هو نمو الدولة، واتضاح تشكيلها الاقتصادي، لأن ضعف الدولة يؤدي إلى ضعف المجتمع المدني.

ويجب أن نؤكد أنه (دون طبقة وسطى لا يمكن لمجتمع مدني أن ينمو، ولعل أحد أهم معطلات قيام المجتمع المدني في الواقع العربي، هو ذلك الانهيار الخطير للطبقة الوسطى.

إن الدولة الليبرالية، هي أعلى درجة في سياق تطور الدولة، ولكن دون التخلي عن عمق مفهوم الدولة بحد ذاته في الغرب. فكيف الأمر في دول العالم الثالث التي لم تستطع الدولة فيها أن تنجز مهامها من حيث السيادة والاقتصاد والأمن الإقليمي، ولكنها برعت في الأمن المحلي إلى حد كبير فاق المطلوب.

العدد 1104 - 24/4/2024