في الفندق الأدبي: الشعر ساخراً على هيئة طعام!

في واحدة من مطوياته الساخرة، كتب الشاعر اللبناني المعروف إلياس أبو شبكة سلسلة قصائد حملت عنواناً لافتاً هو (الفندق الأدبي)، استبطن فيها الشاعر نقداً لشعراء عصره وأدبائه. استطاع الأديب إدوار البستاني أن يعثر عليها ليصدرها كاملة في مجلد بعنوان (إلياس أبو شبكة/ أوراق مطوية)، يقول عنها الناقد الكبير محمد دكروب: (إنها نوع طريف، غير مألوف، من النقد الأدبي الساخر)، وهي قد نشرت في جريدة (البيان) عام 1927.

والنقد حينما يتوسل بالشعر، ولا يستثني حتى صاحبه، فإنه لا يذهب إلى وظيفة جمالية أو معرفية بعينها، بقدر ما يكون تأسيساً لسخرية نادرة متكيفة بذاتها، تشي بحراك ثقافي في أزمنة معينة، تضلّلها روح أبي شبكة، بخفتها الموحية ودعابتها الآسرة. والأدلّ جهره بمراجعه الثقافية، وتعدد ينابيع ثقافته. هكذا يقف إلياس أبو شبكة صاحب (أفاعي الفردوس) في الفندق الثالث، وفي أحد مطاعمه بصحبة الشاعر حليم دموس، ويبدأ بطلب الطعام، ليظهر الشاعر مفارقاً لما يريده حليم دموس، باستعارته ألفاظاً معجمية في السخرية من دموس ليصفه بالهزبر، والمقنعس  الشديد، والسخرية من الاعتقاد أن السمو بالتلحين يتساءل الشاعر: ما يُنشد الحليم، يأتي: (تاريخ لحمة بعجين). لكن طعام أبي شبكة المنشود هو من مثل (النبوغ الرياشي) في إشارة لكتاب النبوغ للبيب الرياشي، وليدور الحوار في ذروة ساخرة عمادها المفارقة، والإيحاء، (صحناً من عشتروت وأدونيس وأبولون، وهكذا. فيما يبدو أن حليم دموس لم يدرك ما أريد منه، ليظهر ساذجاً بما يكفي، فضلاً عن أنه شاعر كثير النظم، و(النظام) لا يذهب إلى جوهر الأشياء، فقط يقف على الشكل ليجده بديعاً.

وأعذب ما في الفندق الثالث الأبيات التي يقول فيها أبو شبكة: أكلة ذقتها بباريس، لكن أطعموني تقليدها في (جوني)، (جوسلين ياتيس أعذب أكلاً.. فهي في الشرق صنع طاه أمين).

القصائد بأبياتها الأربعة والثلاثين تنضح بسخرية لافتة، لكنها في جانب آخر تقرأ كمثال للسجالات الثقافية آنذاك، وبما تعكسه من صراعات خفية ما بين التيارات الفكرية ومفاهيم التقليد والحداثة. وفيما يبدو أن الشاعر إلياس أبا شبكة، قدّر القصيدة مناسبة لترجمته (لجوسلين) قصيدة الشاعر لامرتين، دون أن يتجاوز حركة واتجاهات الإبداع آنذاك، ولعل الحس الساخر ودرامية اللغة الشعرية وسرديتها فيما انتخبه لها الشاعر من قالب حواري شيّق، كل ذلك أضفى على القصيدة، ما يسمى بالمحاكمة الهزلية، التي تستعيد تعبير الحياة كملهاة، لكنها في حيز مقصود هو الموقف النقدي إزاء من يتصور وهو تحت قناع الشعر بأنه شاعر حقيقي، مسألة تتعدى هجاء مبطناً، لتحتفي باللغة وقدرتها على التوصيل، سيما في استثمار أبعادها الساخرة، سخرية محببة تفارق مجانيتها، لتبثّ قيمة ثقافية تجدد معنى أدب ساخر في دلالاته النامية (القبح والجمال)، وبلاغة مفردة ثقافية مخاتلة تجعل من الشاعر إلياس أبي شبكة ساخراً بامتياز، على أهمية استعادته من الذاكرة الثقافية وفي مشروع تنويري يظل سادنه المبدع محمد دكروب.

العدد 1107 - 22/5/2024