مزاج خاسر!

تخيّلوا لو أن الثعابين اشتغلت ماسحة أحذية، تلعق غبارها وتزيدها لمعاناً، وربما إن سمح لها الوقت تتبرعُ بسمّها الزعاف للتجارب العلمية-على ندرتها-عندنا. وعلى ذكر الثعابين فقد قرأت مؤخراً عن ثعبان تلقّى عضّة من رجل ليتركه وشأنه، بعدما أذاق الثعبان الرجل ويلات عديدة، ليس أقلها أن الثعبان التف عليه محاولاً دون جدوى الوصول إلى قفصه الصدري بنية خنقه. يبدو أن استراتيجية (العض) قد انقلبت تماماً. وقد سمعنا عن رجل عضّ كلباً أو نمراً أو ثعباناً. لستُ بصدد الدعوة هنا إلى تأسيس جمعية لحماية الحيوانات من شرور البشر، مع أنني أشي بذلك، والعلم عند الله أن جنون البشر قد فاق أو تفوّق على فنون العوالم الغريزية الحيوانية، التي جهد الروائي التركي (أوفقير) في روايته (ثأر الأفاعي) في تبيان فنونها وأحابيلها، وما تتفتّق عنه (مخيّلاتها)!

تخيّلوا، أن ثمة من يرى الكلمات عارية هكذا، لا ليمنحنا قدرة تصويرية على التقاطها، بل ليقول لنا ببلاغة ناجزة، إن لم يكسُها الفكر والذوق والحساسية، والرعش الفطري، فهي حقاً عارية ولو تبدَّت بأزياء صارخة تجاوزت عبقرية إيف سان لوران.

لِمَ نمنح الخيال تلك (السلطة)؟ ألأن الواقع كسلطة قد طغت متعالياته كثيراً، حتى إن من ذهبوا إلى (تلفزيون الواقع) يلتقطون المعاني المكوّمة على الطريق، اكتفوا به بوصفه مرايا الحال؟ أما الخيال فله صلة بما يفوق الاحتمال، ولا طاقة لنا به، فهو تبديد للوعي وهدر لكثافة الواقع الحافل بكل ما يلمع ذهباً حتى لو كان أخسّ المعادن وأقلّها فاعلية!

كان جبران خليل جبران يقول على الدوام، ويردّد بما يشبه التمائم النادرة: احلم.. بوسعك أن تحلم، وتحلم.. العبد هو من ليس بوسعه أن يحلم!

ترى هل أخطأ النقاد -على مذهب أغاليط المؤرخين- حينما عدّوا رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل ليست الرواية الأولى، على الرغم من تعلّلهم بأنها مكتملة على المستوى الفني -التقني؟  وفي ذلك يرى أحدهم، ولا يخفي استدلاله الحصيف: بأنها جاءت طبقاً لمعادلة الشكل الأدبي الأوربي. وكثيراً ما ربط المصريون الشكل بالمضمون القومي، ليتجاوز بعض الرؤى الاستشرافية التي أعجبت بعض مثقفينا، ليروها مثل حديقة خلفية وراء روايات بعينها!

لا أعلم حتى اللحظة، لماذا نُتهم بأننا لا نجيد الضحك، وبأن الكوميديا هي فن طارئ، قد يُضْحِك شعوب الأرض قاطبة، لكنه يشعرنا -نحن الشرقيين  بالأسى. فإذا رأيت أحداً ما يضحك، فلن تستطيع التمييز، هل هو في حالة ونوبة بكاء تكاد تشبه الضحك؟ فلا عزاء للدراما الهندية التي ربما تسببت بغلاء المناديل. وقد قيل إن من لا يستطيع الضحك هذه الأيام فعليه أن يجري فحوصاً لقلبه، كما الشيفرة الوراثية (لمتخيّله). فهل غدت الحاجة إلى الكوميديا حاجة إنسانية بامتياز؟ فلمقاومة القبح عليك أن تضحك، وللإحساس بالجمال-جمال الحياة، لا بد من حياة الجمال بالضحك.

 يمكن إحصاء غير سبب لانحسار الكوميديا في الأعمال التلفزيونية، علماً أن العمل التلفازي (حدود شقيقة) الذي قد يكون خرج من معطف (الخربة) في بعض ضيوفه الذين حلّوا في العمل وفي شخصيات المختارين، والبيئة. وحتى أغنية الشارة مع اختلاف الكلمات،يجهد من خلال ابتكار لهجة (ضيعجّية) بتمطيطها أو تسكينها وسوى ذلك. لاحظوا الجهد الكبير المبذول، ليس على مستوى الحكاية بقدر ما هو على مستوى ضبط اللهجة وتلوينها بالجماليات الريفية المحبّبة، والمبالغة لجعلها أكثر تقبلاً، حتى لو وصل الأمر إلى حد (التسذيج)، والمصطلح هذا صكه الفنان العالمي الكبير غسان مسعود مستهلاً به إحدى مسرحياته الجميلة.

لأننا استنفدنا الضحك من درامانا المعاصرة ، قررنا أن نستحضر أعمالاً ماضية ومن الزمن الجميل حصراً، لنتذكر كيف ضحكنا بالأمس، لنضحك هذه الأيام وكأننا نضحك للمرة الأولى!

أن تقول (مزاجي خاسر) فأنت لا تقصد عنوان مجموعة شعرية ما، وإنما سينطوي تصريحك على قول ناقص شطره أن لك مزاجاً، وشطره الآخر أنه خاسر. إذن الخسارة لاحقة وليست أصيلة متأصلة، ما معنى المزاج العالي أو المنكفئ، إنه المزاج وكفى، ففي الحلقات الأخيرة من العمل الدرامي السوري (سكر وسط) جرى على ألسنة الممثلين الحوار التالي بما معناه:

-كيف تشرب قهوتك؟!

-سكر وسط!

غير صحيح، أن تشرب قهوتك سكر وسط، فإما أن تشرب قهوتك حلوة وتتمتع بحلاوتها، وإما أن تشربها مرّة وتستمتع بمرارتها!

مزاج خاسر في ألفة ما نعرف، وفي معرفة ما نألف، كأنها الحلقة المفرغة أو نصف الكأس الفارغة التي سيتخطاها من أدركوا في صفاء مزاج أن الشجر لا ينمو فقط خارجاً ليعطي أغصانه وأوراقه هيئة جميلة، وإنما ينمو داخله أيضاً، دوره من حياة ترمي على الحبر بهاء لا يستطيعه.

العدد 1107 - 22/5/2024