النستالوجيا الملتبسة

في هذه النزعة المريبة للعربي صوب الماضي ثمة التباس يثير الدهشة، وذلك بهذه (القداسة) أحياناً التي يُصبغها على هذه النستالوجيا، بحيث يُخيل للمرء، وكأن هذا الكائن العربي، ورغم كل وجوده الحسي في الحاضر. غير أن عقله ومشاعره، وكل أفعاله وتصرفاته، تؤكد أنه لايزال يعيش في الماضي. أحياناً قد يكون هذا الماضي بعيداً جداً، قد يصل إلى الآلاف من السنين، وأحياناً قد يكون هذا الماضي قريباً بعض الشيء، وفي كل الأحوال فإن العربي – وهذا هو المؤكد إلى الآن- لايعيش حاضره، ومن ثم من نافل القول أن نذكر أنه يفكّر في المستقبل.

هذا الحنين إلى الماضي، لا يقتصر على فئة واحدة من مكونات الشعوب العربية، بل تطول حتى المكونات غير العربية التي تعيش على هذه الجغرافيا التي تُدعى ب(العربية)، وكأن (لعنة) هذه النستالوجيا قادمة من باطن هذه الجغرافيا، كما أنها لاتقتصر على المكونات، فهي تشمل كل مناحي الحياة من اقتصاد وثقافة، و..حتى حياة اجتماعية ودينية..!

هكذا يصير كل مانعبره ويصير خلفنا، يُصنف ب (الزمن الجميل)، وكأن كل الجمال توقف في الماضي، فيما الحاضر هو البائس والمنحط. وهكذا يقف العربي على تلة الحاضر لا لينظر إلى ماحوله اليوم، ولا لينظر صوب المستقبل، وإنما ليرى إلى أبعد مدى (رجوعاً) صوب الخلف، حيث سهول الماضي التي تفسح رحابها على أقصاها، بحيث تحضر حتى التفاصيل المغرقة في دقتها، ومن ثم نضفي الجمال على كل تراجيديات ومآسي الماضي، وليكون هذا الاستعذاب المخيف حتى للقهر وتجميله في حالة (مازوشية) تراجكوميدية تبكي وتضحك المرء في حالة اختلاط مفزعة..!

هكذا تفرد الذاكرة العربية خزائنها ومخزوناتها، وتفرد صفحاتها سيما الحزينة منها، أو الملتبسة تلك التي كانت سبباً أو من أسباب تخلف العرب، ومن هنا يفسر اليوم كيف يصير (العربان) وفي لحظة ما، وكأنهم عادوا آلاف السنين إلى مضارب داحس والغبراء. ففي لحظة ما تحضر فكرة، أو طريقة ما قالها رجلٌ ما في مفصلٍ ما من تاريخ هذه الأمة، وكان يظن المرء أنها انتهت في أوانها لأنها جاءت لحل معضلة ما في ذلك الزمن. غير أنها تحضر اليوم طازجة وكأنها قُيلت منذ لحظات، و..قد تسفك الدماء لأجلها، وليس أجدر من العربي من يسفك الدماء عبثياً. لأجل فكرة ظلامية، أو لأجل فتوى ضلالية، ومن ثم يُستل سيف التكفير و.. (عليهم ياعرب) أو للأسف (طاب الموت ياعرب)!

مع أن الزمن هو هو، سواء كان ماضياً أم حاضراً، وحتى مستقبلاً، والجميل والبشع هو ماجرى من أحداث وحراك في هذه الأيام التي تمر دون أن تعطي بالاً ل (تفاهات) من تفسح له الأقدار أن يحيا فيها. وكذلك الجميل والبشع هم الأشخاص الذين قدموا في زمنٍ ما، ومع ذلك لايزال ثمة من يصر على (الزمن الجميل) فثمة مطربون من الزمن الجميل، وأصدقاء من الزمن الجميل، وفلاسفة من الزمن الجميل. وراقصات من الزمن الجميل، و..القائمة تطول في (تجميل) الزمن، لكن دائماً ذلك الزمن السابق الماضي، وليس الحاضر، ومن ثم فإن المستقبل ليس من أية قراءة أو استشراف، أو رؤية له..! مع أن في تفاصيل الزمن الحاضر أشخاصاً مبدعين لايحصون، وأحداثاً ومآثر تُسطر في غاية الروعة والجمال، غير أنهم لا ينتبه إليهم أحد. وهكذا نعرف قيمة من هم حولنا، لكن بعد أن يكون الأوان قد فات كثيراً. ومن ثم لامعنى لتكريمٍ متأخر، ولامعنى لنصيحة فات زمانها. هكذا يبقى في الظل عشرات الكتاب والمبدعين والفنانين والمغنين وحتى القادة العظام، لصالح تكرار الاحتفال والاحتفاء ب (الزمن الجميل) أو بمن كانوا في ذلك الزمن الذي يُنعت بالجمال!

وهكذا أيضاً يصير الزمن الماضي بكامله زمناً جميلاً، لا ببعض أفراده، أو بعض المآثر التي حدثت فيه، هكذا نستقبله (دوكما) ولانفرط بلحظة مهما كانت بائسة منه، و..هكذا نرفض الحاضر (جملةً وتفصيلاً) مهما كان يحتوي على كم من الجمال فيه، عند الأفراد أو الحالات أو الأحداث. ألم يتوقف الزمن الجميل هناك خلفنا؟ إذاً سيبقى السؤال الذي يُطرح منذ عقود: (لماذا تقدموا هم وتخلفنا نحن؟) حاراً ومخيباً على مدار الزمن.!

العدد 1105 - 01/5/2024