شرف العمل

لأول مرة، يدخل جدّي غرفته متجهماً ونحن نلتف حوله نقتنص يديه لنقبلها، وقد أبى علينا ذلك لأول مرة أيضاً، وكان، عندما عاد من عمله استمع إلى أمي بحديث هامس بينهما، سرعان ما نظر إلينا نظرات قاسية، وقد خصّ بنظراته أخي الأكبر.

أخذنا نتدارس فيما بيننا، ونبحث عن السبب في تجهم جدّي، وهل أتى أحد منا ذنباً ما؟ لكننا لم نصل إلى تفسير، ولا إلى معرفة سبب غضب جدي.

تجاهلنا الأمر، وجلسنا كما العادة ننتظر عودته من المسجد بعد صلاة العشاء، لنستمع إلى حكاياته ووصاياه.

ينظر في وجوهنا، وتبدو على وجهه علامات الغضب، لكنه أصلح من وضع عباءته المشمشية على كتفيه، وأخرج سبحته الزيتونية، وأخذ مجلسه المختار.

أصابعه تحرك حبّات السبّحة بتوتر وتسارع ينبئ ويعبر عن غضبه وتوتره، ونحن نعيش لحظات قلق، لكنه تمالك، وألقى بالسبحة على حضنه وقال:

 (أبو راتب) رجل في العقد الخامس من عمره، يعمل في كناسة وتنظيف شارع السوق، يكنس الطريق، ويجمع القمامة من المحلات والمتاجر، ويضعها في الحاوية المخصصة لذلك، ويستغرق في عمله أكثر ساعات النهار.

تبادلنا نظرات مدهوشة، نحاول أن نفهم إلى ماذا يرمي جدي من حكايته، لكنه عاود النظر في وجوهنا، ونحن الأربعة ننظر في وجهه باستغراب.

أمسك كتف أخي الأكبر، وهزّه بقوّة وتابع:

 (أبو راتب) ربُّ أسرة كبيرة، ويعيل والديه العجوزين، وشقيقة له أرملة، وأولادها.

سكت قليلاً يحاول أن يرى ردود أفعالنا، وعندما فشل في ذلك تابع:

 هذا يعني أنه مسؤول عن أسرة كبيرة، تحتاج إلى مصاريف كثيرة.. أليس كذلك؟

 نعم.. هذا أمر مؤكّد.

أجبنا بصوت واحد، تابع يقول:

 حاجته للمصاريف الكثيرة، فرضت عليه أن يبحث عن عمل إضافي بعد أن ينتهي من فترة عمله عامل تنظيفات في السوق، وقد وجد عملاً آخر يدرّ عليه ربحاً يساعده على القيام بأعباء المسؤوليات التي فُرضت عليه.

 وما هو هذا العمل الآخر؟

سأل أخي الأكبر مستغرباً، سرعان ما أجاب جدّي:

 في كل بيت من بيوت عكا حفرة لتجميع مياه الصرف الصحي، وفضلات المراحيض، تمتلئ بين وقت ووقت، ويجب نضحها كي لا تفيض على سكان البيت، وتفريغها لتستوعب الجديد من الفضلات..

سكت قليلاً وتابع:

 نعم، لقد كان عمل (أبي راتب) الآخر نضح تلك الحفر، وترحيل محتوياتها إلى أمكنة بعيدة عن المدينة، ليلقي بها في المكبّ الخاص لذلك.. كان يغوص حتى ركبتيه في تلك الحفر لينضح ما فيها.

نظر جدي في وجوهنا، لكنه لم يستشعر فهمنا لما رمى إليه، نظر في وجه أخي الأكبر وقال:

 كان ينضح الحفر ويغني، يقول (ولا أذلُّ نفسي).. وقد تصادف أن سمع غناءه أحد الشباب المغرورين الذين لا يقيمون وزناً لشرف العمل، فقال له ساخراً: تقول ولا أذلُّ نفسي.! فهل أكثر من نضح الآبار الآسنة ذلّة للنفس؟ أجابه (أبو راتب) وهو يبتسم راضياً: نعم الأذل من ذلك أن أحتاج إليك لتُنعمَ عليّ بحسنة، أو عطف.

ما إن انتهى جدّي من حكاياته، حتى نهض أخي الأكبر وتقدم منه، قبلّ يده وهو يقول:

 سامحني يا جدي.

قال جدي:

 بل عليك أن تعتذر وتطلب السماح من صبحة، فهي وإن كانت تعمل في هذا البيت، إلا أنها تقوم بإعالة أسرتها.

ابتسم جدي ابتسامته الطيبة المحببة وقال:

 لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله سبحانه وتعالى، وخير بني آدم، يرعى الغنم كي يأكل من جهد عمله، وكان يحضُّ على العمل الشريف مهما كان، ولا ذلّ السؤال.

العدد 1107 - 22/5/2024