في زمن الرداءة سورية بلا اقتصاد

 

يثير الشارع الاقتصادي السوري، الأسى والحزن، ويعبر عن حال التردي الذي وصلنا إليه، ويكشف حجم المأساة التي يحاول البعض لفها بورق الهدايا الملون. إنه زمن التقشف بامتياز، لا الدخول تكفي، ولا فرص العمل المتاحة تغطي الاحتياجات، زمن يصعب فيه تأمين الحد الأدنى من لقمة العيش، والحد الأدنى من القوت اليومي. زمن أصبح التسول فيه فرصة عمل، ونهب البيوت وسرقة الممتلكات منظماً. إنه بكل صراحة زمن الرداءة الوقح. اقتصادنا الذي عاش لعقود بلا ملامح، وترك خلفه الكثير من الخيبات الصادمة، بات معطلاً، لا عجلة الإنتاج في قطاعي الإنتاج الحقيقيين  الزراعة والصناعة  تدور، ولايمكن أن ينهضا بسرعة، لسببين اثنين، الأول يتعلق مباشرة بالأزمة التي زاد عمرها على الألف يوم ولم تهدأ طبول حربها بعد، والثاني يتعلق بموقف الحكومة المتراخي، وغير الداعم، والمترهل، إزاء هذين القطاعين. هذا المشهد ليس بجديد على الإطلاق، ولايمكن إضافة جديد عليه، مادام الواقع الذي نعيشه أشد قسوة، وضاغطاً على الناس لدرجة الاختناق، تصوروا أن الموت غدا أمنية للبعض، بينما أمراء الأزمة وأعوانهم يرفلون بنعمة طارئة، وينعمون بثروات هي محط تساؤل عن مصدرها، وسبل جمعها، وتركزها؟ وللأسف سقطت مدوية، كل الأخلاقيات التي كنا نزعم أننا نملكها، إذ عرّت الأزمة الكثير من المبادئ التي كنا نتحدث بها، فهذه الحالة التي لايمكن فهمها، من الانتشار الواسع لمحلات بيع الأثاث المستعمل، أو بالأحرى الأثاث المسروق، لا علاقة لها بكل الأزمة الراهنة وظروفها، والأسباب التي أدت إليها، بل لابد من التذكير أن هذه المحلات هي نتيجة حتمية لظهور اللصوص بشكل مشرعن. إذ لايمكن فهم أن تتحول العلاقات التجارية في اقتصادنا الغائب عنه لونه المحدد، إلى علاقة لص، بكل ما تعني الكلمة من معنى، مع طالب الحاجة، وأن تصبح عمليات البيع والشراء قائمة على أساس بضاعة مسروقة يشتريها صاحب حاجة يعلم يقيناً أنها ليست من حقه أو حق بائعها. هذه الحالة التي يمكن تعميمها، تتناقض مع مُثل وأخلاق شعب تربى على الأمانة، فكان ترتيبنا من بين أكثر عشر دول فساداً،  كما أنها لا ترتبط مع قانون العرض والطلب الذي سعى منظرو الاقتصاد السوري إلى ترسيخه، إلا من باب العرض المغري من حيث الأسعار. هل يمكن لاقتصادنا أن يؤسس لهذه الحالة المقرفة، بعد جهود سنوات عديدة لتأسيس مبادئ الفوترة مثلاً؟ كيف لمحل بيع مسروقات أن يعطيك فاتورة، أو يبيعك سلعة، ويستخدم أسلوب التاجر الشاطر عندما يقول: (برأسمالها) في محاولة منه ليضع حداً ل(البازار)؟

أفرزت أزمتنا المتعددة الأوجه، ظواهر كثيرة، كنا من باب الاستغراب نعتبرها بعيدة عن أخلاقيات وسلوكيات مجتمعنا، لكن بصراحة، مؤلمة، وقاسية، وجدنا أن الأزمة كشفت اللثام عما كنا نخبئه، وأظهرت ما كنا نخفيه. وبشكل حاد  سمت الأزمة الأشياء بمسمياتها، من خلال تظهيرها بصورتها الحقيقية. إذ تنتشر في الشوارع الكثير من المظاهر المؤلمة: أسرة تبيت في خيمة مصنوعة من النايلون، وأم وأطفالها يفترشون الأرض المبللة سعياً وراء رزق مغمس بهدر الكرامة، أسعار كاوية بلا حماية للمستهلك، يمكن أن تصنفنا في قائمة أغلى البلدان كلفة للمعيشة! سابقاً كانت دمشق تدخل هذا التصنيف العالمي، إلا أن سورية بأكملها يمكن أن تتصدر اليوم مثل هذه القوائم، مواصلات لا تعرف من المواصلات إلا الاسم فقط، وكذا وسائل النقل والرقابة عليها، والقائمة تطول.

إنها تخوم الكارثة الاقتصادية، فهذا هو الشارع الاقتصادي الحقيقي، لا ما تعلنه الحكومة ووزراؤها، في تصريحاتهم الباردة، والجوفاء، والعقيمة، لأنها لا تحرك مياهاً راكدةً، وتحاول التغاضي عن آلاف نواقيس الخطر التي دقها الناس، إيذاناً بإعلان الخيبة المريرة التي يتعرضون لها، والكارثة المؤلمة التي تضيّق الخناق عليهم، لكن الصوت الذي يصل مخنوقاً، لا يلقى الصدى. ها هو ذا شارعنا الاقتصادي: غابت التنمية، لايوجد استثمارات، تعطلت الصناعة، الزراعة تقف في عنق الزجاجة، سوق العقارات شبه متوقفة، المصارف بلا إقراض…الخ، ألا يعد هذا موتاً سريرياً لاقتصاد حضارة عمرها عشرة آلاف عام؟ ألا يعد هذا إساءة فاضحة لشعب كان له الفضل في اختراع المحراث، ووضع أول نوتة موسيقية؟

في أزمتنا التي نعاني من تداعياتها، وفي الحلول أيضاً، يحضر كل شيء، إلا الاقتصاد. لاندري لماذا؟ لكنه في النهاية الاقتصاد، القنطرة التي لابد من المرور تحتها.

 

هوامش

6 ملايين سوري فقدوا أعمالهم، آبار النفط بلا انتاج، معظم المنشآت الصناعية دمرت، قيمة الليرة انخفضت بنحو 65%، لاجئون، نازحون، مهجرون، خطف، قتل، …….الخ.

العدد 1105 - 01/5/2024