يا إلهي.. ما الذي يحدث..؟

ما الذي يحدث في بلادنا… ؟

شباب في مقتبل العمر.. ثائرون.. غاضبون.. هائجون.. يخرجون إلى الشوارع.. يحتشدون.. ثم فجأة، يشكلون مسيرات يهتفون فيها بشعارات ناقمة… ويحرضون الناس على العصيان والقتل والتخريب والاغتصاب والاغتيال وسفك الدماء وتقطيع الأوصال وبقر البطون والذبح والسلب والنهب واحتجاز الرهائن وأخذ الفدية.

فتيات لا يزلن في أعمارهن، يفوح منهن عبير أنوثتهن وبراءتهن، يمارسن أعمالاً شائنة لم نكن نتصور في يوم من الأيام، أن في بلادنا من هن قادرات على ممارستها دون حياء، ودون أن يحسبن حساباً لرادع ديني أو وازع أخلاقي يجعلهن يشعرن بالخوف أو الوجل مما اقترفنه من آثام تضر بهن وبسمعتهن.

عمائم.. ولحى.. وشيوخ.. يصدرون فتاوى عجيبة غريبة، تحسب وأنت تسمعها أنها بعيدة كل البعد عن تعاليم السماء وحكمة الأنبياء، وأنها قريبة كل القرب من تعاليم الشياطين وأبالسة الأرض.

ثلة من المثقفين وأشباه المثقفين.. والسياسيين وأشباه السياسيين يتنازعون في القنوات الفضائية.. يختلفون في وجهات النظر والرأي وتحليل الأحداث والمواقف، فيتصايحون ويتنابزون بالألقاب ويشتم بعضهم بعضاً بكلمات بذيئة يأنف الذوق الرفيع من ترديدها، تحسب وأنت تسمعها أنها صادرة من أناس لا يستحقون إلا أن يكونوا في قاع المجتمع، ودهاليز وأقبية الرذيلة، ثم لا يلبثون أن يمسكوا بتلابيب بعضهم بعضاً ويتعاركوا بالأيدي والأحذية والكراسي، غير مبالين بالمشاهدين وبمقدمي البرامج الذين استضافوهم، والذين ألقوا على عاتقهم مسؤولية الوقوف حائلاً دون الاحتكاك فيما بينهم كي لا يصاب أحد منهم بأذى.

والطريف أن مقدمي البرامج الذين يظنون أنهم يقدمون وجبات ثقافية دسمة للمشاهد لا يدركون أن ما يقدمونه لا يعدو كونه فناً من فنون التفاهة والترهات، وطقساً من طقوس الاختلاف والنزاع، كما أنهم لا يدركون أنهم قد ابتكروا مصارعة جديدة غير حضارية لا في حلبات الرياضة بل في حلبات السياسة والإعلام.

عصابات تمارس الإبادات الجماعية.. ومرتزقة يمارسون القتل بالمجان وبدم بارد.. وقذائف هاون تحمل الموت للأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال.. ومجازر وحشية.. وجرائم شنيعة يرتكبها من ماتت ضمائرهم وانعدمت فيهم المشاعر الإنسانية.

نعم… ما الذي يحدث في بلادنا…؟

لقد أصبح الموت يطاردنا في كل مكان.. في الشوارع فوق الأرصفة في البيوت في الحدائق في غرف النوم في المدارس والجامعات.

نذهب لشراء الخبز.. الموت يتربص بنا هناك..!

نذهب لإنجاز معاملاتنا في الدوائر الرسمية.. الموت يتربص بنا!

نذهب إلى الأسواق لشراء حوائجنا.. الموت يتربص بنا!

عبوات ناسفة… سيارات مفخخة… قناصون… شباب انتحاريون يفجرون أنفسهم.

ما الذي يحدث.. ما الذي يحدث..؟

يا إلهي كم أصبحت حياة الإنسان رخيصة في هذا الزمن..!

وقد كنت أتساءل وأنا أرى ما أرى من القتل وسفك الدماء والهمجية التي يمارسها هؤلاء الشباب:

هل هؤلاء الشباب هم بشر مثلنا حقاً من لحم ودم…؟ أم أنهم قادمون من كوكب آخر غير الكوكب الذي نعيش عليه..؟

هل يحملون ضمائر ومشاعر وأحاسيس إنسانية كالتي نحملها..؟

هل يأكلون كما نأكل.. ويشربون كما نشرب.. ويعشقون.. ويفرحون.. ويغضبون.. ؟

إلى أن وقع بين يدي  منذ أمد غير بعيد  كتاب للشاعر ممدوح عدوان تحت عنوان (حيونة الإنسان) فوجدت فيه ضالتي.. وأجوبة عن الأسئلة التي حيرتني.

يقول في مقدمته: إن عالم القمع الذي يعيشه إنسان هذا العصر هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على حيونة الإنسان (أي تحويله إلى حيوان). ثم يقول: ما دام عالم القمع والاستغلال والإذلال قائماً ومستمراً، فسينتهي بنا إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر، كان اسمه (الإنسان)، أو كان يطمح إلى أن يكون إنساناً، ومن دون أن يعني هذا بالضرورة تغييراً في شكله، إن التغيير الأكثر خطورة هو التغيير الذي جرى في بنيته العقلية والنفسية. ثم يستشهد بعبارة من كتاب (تأصيلاً لكيان) لمحمود المسعدي: (يتردد الإنسان متأرجحاً بين منازل مختلفة، فمن الناس من لا يختلف كثيراً عن الحيوان، ومنهم من يبقى طوال حياته يتخبط في البهيمية إحساساً وشعوراً وتصوراً وحياة ومسؤولية، ومنهم من يرتفع عن ذلك درجة أو درجات، ومنهم من قد يصل في الارتفاع إلى أن يشرف على أفق عالم الملائكة).

العدد 1105 - 01/5/2024