كي لا ننسى: الدكتور بدر الدين السباعي

ولد بدر الدين في حمص عام 1918 وقبل أن ترى عينيه النور، كان والده عامل نول النسيج قد رحل عن هذه الدنيا، وعندما بلغ من العمر سنتين ونصف السنة أدركت المنية والدته، كما كتب المؤرخ القدير الدكتور عبدالله حنا في كتابه – الوثيقة الهامة (الحركة الشيوعية-الصعود والهبوط) الصادر بدمشق عام 2008.

بعد حصول بدر الدين على البكالوريا، انتسب إلى دار المعلمين الابتدائية بدمشق، وتخرج فيها، ومارس التعليم في مدارس حمص الابتدائية، وخلال تلك الفترة سجل هذا الشاب الطموح طالباً بمعهد الحقوق، وأكمل دراسته فيه، وتخرج فيه حقوقياً.

في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي انضم إلى الحزب الشيوعي السوري، وصار ضمن قيادة منظمته في حمص.

سافر إلى فرنسا لمواصلة دراسته العليا ونيل درجة الدكتوراه في الحقوق، وحملت أطروحته عنوان (مشكلة الفلاح السوري).

وعند عودته إلى دمشق، شارك مع عدد من رفاقه المحامين في الدفاع عن المظلومين أمام المحاكم، إضافة إلى مهامه الحزبية في دمشق وحمص.

في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي نشر كراساً تضمن مختارات من الآيات القرآنية التي تحضّ على التزام العقلانية والوقوف في وجه الظلم والاستبداد، وذلك لحشد الجماهير المؤمنة في الجبهة المعادية للظلم والاستغلال.

في عام ،1959 عندما اشتدت الملاحقة والسجن للشيوعيين وأصدقائهم، وذلك بسبب حرصهم على الوحدة وتوفير متطلبات إدامتها وتطورها، مؤكدين ضرورة قيامها على الأسس الديمقراطية ومراعاة خصوصية الوضع في كل من سورية ومصر، اضطر بدر الدين إلى مغادرة البلاد والالتجاء إلى موسكو، حيث انتسب إلى جامعتها، وقام بتحضير رسالة دكتوراه عن الاقتصاد حول الرأسمال الأجنبي في سورية، صدر فيما بعد في كتاب باللغة العربية يعتبر من المراجع الهامة في هذا الشأن.

وبعد عودته من موسكو إلى دمشق عام ،1964 تجسد نشاطه في البحث والتأليف والترجمة من الفرنسية والروسية إلى العربية، للعديد من الأدبيات الماركسية حول الاقتصاد السياسي، والاشتراكية، والمرحلة الانتقالية وما يتعلق بحركة التحرر العربية.. إلخ. وقد اهتم بقضية المرأة، فأصدر كتاباً حمل عنوان (المرأة عبر التاريخ)، وهو كتاب هام جداً، إضافة إلى كتاب (لينين والمرأة) للرفيقة زينب نبّوه عام 1970.

وقام الدكتور بدر الدين وزوجته الدكتورة نجاح ساعاتي بتشجيع نخبة من المتملكين للغات الأجنبية بالمساهمة في الترجمة من تلك اللغات إلى العربية، في السياق نفسه للموضوعات المار ذكرها.

في عام 1969 التحقتُ بالعمل لدى هيئة تخطيط الدولة، وكان مديري المباشر الدكتور بدر الدين، الذي تعلمت منه الكثير، فهو جادّ دائماً فيما يضع من أهداف وفي العمل على تنفيذها، وغالباً بروح الفريق. فقد كانت هيئة تخطيط الدولة عهد ذاك بصدد الإعداد للخطة الخمسية الثالثة، فكان بدر الدين حريصاً على تحديد المفاهيم وصياغة الوثائق التخطيطية بدقة علمية، ولم يتهاون مع من يعمل معه، إذا كان يبدد الوقت دون فائدة.

الدكتورة نجاح ساعاتي زوجة الدكتور بدر الدين منذ عام 1952 كانت من بين المكرمات في الحفل الذي نظمه الحزب الشيوعي السوري الموحد، في يوم المرأة العالمي (8 آذار) في العام الماضي، وحسب اطلاع الدكتور عبدالله حنا كان للدكتورة نجاح ساعاتي باع طويل في شدّ أزر الدكتور بدر الدين السباعي مادياً ومساعدته معنوياً في نشاطه الفكري، كما شاركت في نشاطات حزبية ونسوية كثيرة. إضافة إلى مساهمتها في عدد من الترجمات منها كتاب (الحركة العمالية العالمية- قضايا التاريخ والنظرية) من تأليف مجموعة من الباحثين السوفييت، وقد قدمتُ عرضاً لهذا الكتاب نُشر في مجلة (النهج) الصادرة بدمشق، العدد 22 عام 1988.

وكما هو معروف فقد شارك بدر ونجاح بتأسيس دار ابن الوليد بحمص أولاً، وثم دار الجماهير بدمشق، وقد صدر عن الدارين عشرات الكتب التقدمية، تأليفاً وترجمة، كما اهتمت الداران بكتب التراث، فأصدرت مثلاً كتاب تقي الدين المقريزي المعنون (إغاثة الأمة، بكشف الغمّة)، و(تاريخ المجاعات في مصر) مع مقدمة مطولة له بقلم الدكتور بدر الدين السباعي، وكتاب (أضواء على قاموس الصناعات الشامية).

هذه المطبوعات من الدارين أغنت المكتبة العربية، وعرّفت ومازالت تعرّف القراء بالفكر الإنسانية التقدمي عربياً وعالمياً، وربط الفكر بالعمل من أجل حياة أفضل للإنسان.

وفي هذا السياق صدر لي ضمن هذه المطبوعات عن دار الجماهير بدمشق عام 1975 كتاب (دراسات اشتراكية في النظرية التعاونية)، تأليف الدكتور كارل برنيتسه، تعريب د. مجيد مسعود، تدقيق د. بدر الدين السباعي.

لماذا (تعريب) وليس (ترجمة)؟ فقد واجهتنا مشكلة الحجم الكبير من الهوامش والمراجع باللغات الروسية والألمانية والتشيكية، التي لا يستفيد منها القارئ العربي. وبعد التشاور مع المؤلف، وافق على استبعادها من الطبعة العربية، ولهذا جاءت عبارة (تعريب)، إشارة إلى التصرف الذي حصل في نقل مادة الكتاب من اللغة التشيكية إلى العربية، من دون الهوامش والمراجع.

خلال مراجعة الدكتور بدر الدين لهذا الكتاب، كان يُدقق كعادته في كل كلمة، ومازلت أتذكر سؤاله: (يا رفيق مجيد.. أين خبر كان؟).. وأنا أعترف بتقصيري في إتقان لغتي العربية العزيزة.

رحل الدكتور بدر الدين السباعي، ولكن ذكراه باقية، كما هي ذكرى المناضلين الآخرين، نبراساً للأجيال القادمة، من أجل وطن حر وشعب سعيد.

العدد 1105 - 01/5/2024