مع تراجع مخزون العالم من المعادن النادرة إعادة تدوير «التكنولوجيا الخضراء».. ليست كافية

في ظل بحث العالم عن مصادر جديدة ونظيفة ومستدامة للطاقة، والتوجه نحو (الطاقة المتجددة) التي تعتمد بشكل رئيسي على ما بات يسمى (التكنولوجيا الخضراء) (المستثمرة بشكل رئيسي في الهواء والشمس)، برزت مشكلة حاجة هذه التقنيات إلى أتربة نادرة ارتفعت أسعارها بشكل كبير (بسبب ندرة الوجود وصعوبة الاستخراج والاحتكار)، ما أثر سلباً في الكلفة مع زيادة الطلب عليها بشكل كبير. من هنا بدأت الدول بوضع استراتيجيات لإعادة التدوير والتصنيع لهذه التقنيات الدقيقة للتوفير في المواد الأولية. لكن ما كانت حصيلة هذه التجربة (إعادة التصنيع)؟ وهل يمكن الاتكال عليها كلياً في المستقبل للتخفيف من استخراج المواد الأولية النادرة التي تتسبب أثناء استخراجها بتلويث التربة والمياه الجوفية، وبأمراض خطيرة ومميتة للعمال، ما جعل معظم الدول سابقاً، التي تحترم المعايير البيئية للاستخراج والتي تحفظ إلى حد ما حقوق العمال، تميل إلى تفضيل خيار استيرادها على خيار التنقيب عنها واستخراجها وتصفيتها. لكن يبدو أن حصيلة تجربة إعادة التصنيع لم تكن سهلة ولا كافية، بحسب أندرو بلادوورث الذي كتب عن هذه القضية في عدد شهر كانون الثاني 2014 من مجلة (الطبيعة)، مؤكداً أنه (لا يمكن الاكتفاء بإعادة التدوير لتلبية الطلب على المعادن النادرة المستخدَمة في تصنيع الأجهزة الرقمية وأجهزة توليد الطاقة الخضراء، وأنّ الأمر يتطلب منهجاً أكثر شمولاً).

وقد يبدو خيار إعادة التصنيع غير كاف أيضاً، خاصة إذا صممت الدول على زيادة الإنتاج من الطاقة المتجددة في استراتيجياتها، لا سيما في ظل بحث الدول دائماً عن الطاقة الأرخص. إلا أن الطاقة الأرخص، بحسب الاستراتيجيات الموفرة الحديثة هي الطاقة التي لا نستهلكها، أي تلك التي نوفرها من خلال اعتماد سياسات الحفظ.

لكن ماذا عن الدراسة الجديدة عن عدم كفاية إعادة التصنيع التي يعرضها أندرو بلادوورث في مجلة (الطبيعة) والتي ينتقد فيها استراتيجيات الدول وخططها وتوصياتها في الاتكال على إعادة التصنيع التي يعتبرها غير مدروسة كفاية وسطحية، نظراً لتعقيدات هذه الصناعة ولأن هناك بعض المعادن التي من المستحيل استردادها؟

لقد زاد الطلب على المعادن بمعدلات متسارعة وفائقة جدّا بازدياد أعداد السكان في العالم، وتطلُّع الملايين في الدول الناشئة إلى نمط الحياة الغربي، كما اتسع تنوُّع المعادن المستخدَمة في ظل تطوُّر التقنيات. ونتيجة لذلك، برزت المخاوف القديمة بشأن ندرة المعادن، ونضوب الموارد في السنوات العشر الأخيرة.

مخاوف من الاحتكار

تتركز المخاوف على توقُّع نقص معادنٍ بعينها في المستقبل، مثل الإنديوم، والليثيوم، والعناصر الأرضية النادرة، والتيلّوريوم، والجرمانيوم، وكلها معادن أساسية لتقنيات الطاقة الرقمية الجديدة الصديقة للبيئة، مثل الخلايا الكهروضوئية، والسيارات الكهربائية (لا سيما البطاريات).

انتشرت هذه المخاوف في جميع أنحاء العالم في عام 2009 عندما قلَّلت الصين صادراتها من المعادن الأرضية النادرة ورفعت اسعارها، بسبب سعي الحكومة للحفاظ على تلبية احتياجات قطاع التصنيع المحلي السريع النمو. وقد شكت الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا آنذاك الصين أمام منظمة التجارة العالمية حول هذا الموضوع الذي لا يزال مدار جدل ونزاع.

تؤدي المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية – الاجتماعية (مثل النزاعات الإقليمية في آسيا، أو علاقات العمالة في دول الجنوب في إفريقيا)، إلى وقف توريد هذه المعادن، لأن الأماكن التي تنتجها تُعَدّ على أصابع اليد. وتؤدي العوائق التجارية إلى تفاقم المشكلة، فالاستثمار في هذه المعادن محفوف بالخطر، نظراً إلى صعوبة استخراجها، ولأن أسواقها صغيرة ومعقدة ومتقلبة، مقارنةً بأسواق النحاس والحديد والألومينيوم.

ويقترح الكاتب لتوفير المعادن اللازمة لتقنيات المستقبل، أن تتضافر جهود العلماء والشركات والهيئات الحكومية الواضعة للسياسات. فدراسات التقييم العديدة التـي قامت بها الحكومات لم تحقِّق المأمول منها، ورغم أنها تحدِّد المشكلات الرئيسة، إلا أنها تثير الكثير من الجدل العقيم حول مدى أهمية معدن معين. وهو يرى أن الحلول التي تطرحها تكون عامّةً، وغير مجدية من الناحية العملية.

خريطة لكل معدن

من أبرز النتائج العامة والسطحية لهذه الدراسات: الإشارة إلى إمكانية توفير أغلب المعادن اللازمة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية في أوربا والمملكة المتحدة، بإعادة التدوير. ورغم أهمية التدوير لإدارة مخزون المعادن الصناعية الشائعة، فإن تطبيقها على معادن التقنيات أمر معقَّد للغاية. فهناك معادن من المستحيل استعادتها بعد استخدامها، وهناك معادن يمكن استعادتها، ولكن دون جدوى عملية.

إنّ المزيد من المصادر الأساسية مطلوب لتلبية الطلب المتنامي، وتعويض معادن التقنية المفقودة. وللعثور على موارد جديدة، لا بد من فَهْمٍ أفضل للعمليات الجيولوجية التي تركِّز هذه المعادن. ولزيادة فعالية استخراجها، وتجنب أي تأثير ضار بالبيئة، يقترح الكاتب وضع خريطة لكل معدن على حدة، ومراحل تصنيعه… من خام في الأرض، إلى نهاية استخدامه.

موارد واعتراضات

تزايَدَ الطلب على معادن الإلكترونيات بشدة في السنوات الأربعين الماضية، مع وجود نحو 80 بالمئة من الإنتاج العالمي المتراكم من الجاليوم، والعناصر الأرضية النادرة، ومجموعة معادن البلاتين، والإنديوم منذ عام 1980. ومن المتوقع أن يستمر النمو في المستقبل القريب.

ويجري التنقيب عن أغلب المعادن المستخدمة في صناعة الإلكترونيات في أماكن محدودة قليلة. ففي عام 2011 مثلًا، كان 72 بالمئة من إنتاج الكوبالت في العالم يأتي من جمهورية الكونغو الديموقراطية، و75 بالمئة من الإنديوم يأتي من الصين. هذه المعادن يتم إنتاجها بكميات قليلة. ففي عام 2011 تم استخراج  72.900طن فقط من التنغستين على مستوى العالم، مقارنةً بنحو 45.2 مليون طن من الألومنيوم، و1.5 مليار طن من الصلب الخام.

وقد توصّلت بعض الدراسات إلى أن ندرة معادن التقنيات الرقمية ونضوبها أمر حتمي مع تنامي الاستهلاك وتجاوزه مستوى الاحتياطات الحالية. وفات هذه التوقعات المتشائمة أن تأخذ في حسبانها أنّ الاحتياطات الأرضية متغيرة، إذ تتسع بالتزامن مع ارتفاع أسعار المعادن، وانخفاض تكلفة استخراج الخامات المنخفضة الجودة وازدياد سهولتها، في حين تنكمش وتتقلص مع انخفاض الأسعار. وقد ساعد مزيج من ضغوط الأسعار والتطورات التقنية على استقرار أو تنامي الاحتياطي العالمي الحالي من أغلب المعادن خلال السنوات الخمسين الماضية.

كانت معادن التصنيع الإلكتروني ذات جدوى اقتصادية محدودة حتى وقت قريب، ولذلك لم يكن هناك دافع للبحث عنها، ونتيجة لذلك لا نعلم الكثير عن توزيعها في الأرض، أو العمليات الطبيعية التي ساعدت على تركيزها.

ويتوقع الكاتب، مع تقدُّم العلوم، إمكان إعادة فحص مناطق التعدين القديمة، واستكشاف آفاق جديدة. فالمناجم السابقة في جنوب غرب إنكلترا ربما تبشر باحتوائها على مادة التنغستين، على سبيل المثال، وقد تم اكتشاف مستودع كبير للعناصر الأرضية النادرة الثقيلة في عام 2009 في نورّا كِر بالسويد، لكنّ التحدي الكبيـر هنا يكمن في التغلب على اعتراضات الرأي العام على المناجم الجديدة، خاصة في الدول المتقدمة، التي يتردد فيها السكان غالباً في قبول عواقب الاستهلاك الواضح على الموارد.

القيود التقنية

تقدِّم (المعادن الثانوية)، أي تلك التي يعاد تدويرها من المنتجات المنتهية الصلاحية، مواردَ إضافية قيِّمة، لكن المخزون الثانوي لا يلبي أبداً الطلب المطرد، كما أن إعادة التدوير تخضع لقيود تقنية.

تُستخدَم معادن التقنية في العديد من التطبيقات، من الهواتف الجوالة إلى السيارات، إذ يدخل نحو 60 عنصراً مختلفاً في تصنيع المعالجات الدقيقة ولوحات الدوائر الإلكترونية، التي تُستخدَم بكميات ضئيلة، وغالبًا بتكوينات لا تُوجَد في الطبيعة.

تتوقف إمكانية استعادة المعدن (عندما يتلف الجهاز) على قيمة العنصر، وتركيزه، وإمكان استخراجه بعد دمجه بالمواد الأخرى. فالمعادن الثمينة (مثل البلاتين والذهب) هي الهدف الرئيس من معالجة لوحات الدوائر المستعملة، كما يمكن استرجاع النحاس المنخفض القيمة، والأنتيمون، والإنديوم في الوقت نفسه، لكن هناك معادن، مثل التانتالوم، والجاليوم، والجرمانيوم، والعناصر الأرضية النادرة، تتعرض للأكسدة؛ وتضيع في الخَبَث المنصهر.

بحسب الكاتب، تصبح إعادة تدوير معادن الإلكترونيات جذابةً من الناحية الاقتصادية عندما تكون مركَّزة بصورة عالية، على سبيل المثال في تصنيع الخردة. فنحو 70 بالمئة من الإنديوم المستخدم في إنتاج الشاشات المسطحة مثلًا يذهب إلى الخردة، وهناك يعاد تدويره.

يتطلب تحسين الفاعلية وتذليل الصعوبات قياس مخزون المعادن المستخدَمة في الصناعات الرقمية، وفَهْم منظومة مسارها ومختلف مراحلها، من التعدين إلى التركيز وعمليات الاستخلاص والمعالجة، والتصنيع والاستخدام وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير، ثم التفتيت والانتشار والتصريف. على سبيل المثال، يؤدي تحسين تقنية الاسترجاع في مناجم التنغستين إلى زيادة كمية معدن المستودعات الذي ينتهي بالوصول إلى المصهر (75% من التنغستين، مقابل 90% للذهب).

نظريًّا، يمكن استرجاع أكثـر من 90% من معادن مجموعة البلاتين المستخدَمة في المحفزات الآلية. وعمليًّا، لا يمكن استرجاع سوى 50-60% من سيارات الخردة الأمريكية، بسبب تصدير العديد من السيارات المستعملة إلى الأماكن التي لا توجد فيها إعادة تدوير. وتحليل مسارات البلاتين يبين ما إذا كان استخدام وسيلةٍ ما لاسترجاع المحولات المحفزة المفقودة أكثر فعالية من وسيلة أخرى، مثل اقتراح شركة بريطانية لإدارة المخلفات في عام 2011 استرجاع هذه المعادن من كنّاسات الشوارع. فإذا كانت المحفِّزات الآلية تحتوي على 0.2 % من معادن مجموعة البلاتين، فإن كنّاسات الشوارع تحتوي على جزء واحد فقط من مليون جزء.

إنّ تذليل العوائق التقنية أمام فعالية استغلال المعادن بهذه الطريقة هو محور لعدة مبادرات، مثل مشارَكة الابتكار الأوربية حول المعادن الخام، التي تضم عدداً من الدول الأوربية، وتستهدف زيادة إتاحة المواد الخام في المنطقة.

بالرغم من كل ذلك، فإن تحديد دورة حياة المعادن الحيوية ينطوي على عدة تحديات. فكميات هذه المعادن منخفضة، ولا يقوم بعمليات الاستخلاص والمعالجة وإعادة التدوير سوى شركات قليلة، كما أن السِّرِّيَّة التجارية تجعل الحصول على البيانات والاتصالات في غاية الصعوبة.

المنهج الشامل

في السنوات الخمس الماضية، تصاعدت المخاوف حول توفر معادن تصنيع الإلكترونيات من مجرد الخوف من النضوب الفعلي واستعراض العضلات الصينية الجيوسياسية، إلى افتراض خطير من قِبَل بعض صُنّاع القرار أن إعادة التدوير هي الحل، لكن الأمر، بحسب الكاتب، يتطلب منهجاً شاملاً، يبدأ بمراعاة المصادر الأولية والثانوية في إطار منظومة واحدة مفهومة جيداً. فالبيانات الإحصائية الأساسية مهمة للغاية في هذا الصدد. كما أن هناك حاجة إلى إقامة حوار بين شركات الإنتاج والمعالجة والاستهلاك والتدوير. وينبغي على واضعي القرار فَهْم كيفية استخدام معادن التقنيات ومزجها، وتأثير ذلك في الجدوى الاقتصادية والبيئية لتدويرها.

ويخلص الكاتب إلى التأكيد أنّ المزايا التي توفرها تلبية احتياجات صناعات الإلكترونيات من معادن واضحة للجميع، ولهذا، فإن تحسين كفاءة استخراج هذه المعادن ومعالجتها من مصادرها الأولية، وتقليل تأثير ذلك في البيئة، فرصة كبيرة للشركات والباحثين.

العدد 1107 - 22/5/2024