التحول الديمقراطي في البلدان العربية

الديمقراطية تعني حسب الفلسفة اليونانية (حكم الشعب نفسه بنفسه). وهي شكل للحكم، فيه ينتخب المواطنون بالاحتكام إلى الناس، إلى العقل البشري، في شؤون الحكم وتداول السلطة. وهي ممارسة سياسية منذ القرن الثامن عشر.

إلا أن هذا المفهوم لم يترجم إلى واقع عملي في المراحل الأولى من التاريخ في أي مكان من العالم، وحتى لا في أثينا القديمة، ومصدر هذا المفهوم وأولى التجارب في مجال الديمقراطية. إذ إنها لم تكن تعني في أحسن الحالات سوى ربع سكان المدينة من الذكور، أما بقية السكان فليسوا أكثر من شراذم من الرعاع والعبيد والنساء والأطفال ممن لم يحق لهم مباشرة النشاط العام ولا يتمتعون بأية حقوق سياسية. رغم أن الخلفية الفلسفية للديمقراطية هي علمانية، وأن الشعب مصدر السلطات وهو الإطار المرجعي.

وإلى جانب الديمقراطية في أثينا اليونانية في المجتمع العبودي فإن نماذج أخرى من الديمقراطية تعددت وتنوعت أشكالها واختلفت تفسيراتها وتطبيقاتها لدى العديد من النظم السياسية عبر المراحل التاريخية اللاحقة منها: الديمقراطية البرجوازية والديمقراطية الاشتراكية. فالديمقراطية البرجوازية اقتصرت على الميدان السياسي بينما ظلت مجالات العلاقات الاجتماعية التي تخص إدارة الاقتصاد محكومة بمبادئ أخرى غير ديمقراطية أصلاً، وهي سيادة الملكية الخاصة والمنافسة.

وتتسم هذه الديمقراطية بالطابع الشكلاني الذي يتحدد بالجانب السياسي، وفي المضمون يهمل الجانب الاجتماعي الاقتصادي الذي يتمثل بالعدالة في توزيع الثروات.. أي طابع ديمقراطي يوحي بالاتساع، ومضمون طبقي يوحي بالتحديد. ويمكن القول بالاستناد إلى ماركس: (إن الدولة البرجوازية هي ديكتاتورية وديمقراطية في آن معاً. تعتبر ديمقراطية في علاقتها بالفرد المجرد الذي يتمتع بحقوقه السياسية، وتعتبر ديكتاتورية في علاقتها بالإنسان المنتمي إلى طبقة معينة).

الديمقراطية الاشتراكية: ومع قيام أول ثورة اشتراكية في العالم عام 1917 بقيادة الطبقة العاملة الروسية تحولت الديمقراطية لأول مرة في تاريخ المجتمعات الطبقية إلى حق كامل للشغيلة من عمال وفلاحين وكادحين. شكلت الديمقراطية الشعبية نظاماً في روسيا وفي بلدان أوربا الشرقية. (منظومة الدول الاشتراكية) وبعد انتصار العلاقات الاجتماعية الاشتراكية عام 1936 كان من المفروض خلق آلية جديدة للمنظومة السياسية في الاتحاد السوفييتي، وذلك بتوسيع الإطار الديمقراطي وتعميقه بحيث لا يقتصر على الجانب الاقتصادي والاجتماعي المتمثل بالاشتراكية.

وكان لينين قد رسم سياسة اقتصادية جديدة تكمن في عملية الربط بين الاقتصاد والسياسة بشكل متين ونشر ديمقراطية عامة في المجتمع والدولة والحزب والقيام بإصلاحات سياسية واسعة تضمن تعميق الدولة الديمقراطية الاشتراكية واستمرارها، غير أن هذا لم يحصل إلا لفترة سنوات قليلة. وبعد رحيل لينين جرى تجاهل واضح للسياسة اللينينية. فارتكبت في فترة الجمود العقائدي الستاليني جرائم بحق الذين كانوا جزءاً هاماً من القاعدة الثورية للاشتراكية، إضافة إلى عوامل أخرى داخلية وخارجية أدت إلى أزمة النظام الاشتراكي، التي ظهرت بشكل واضح في منتصف الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وأدت إلى انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وبلدان المعسكر الاشتراكي السابق. ورغم ما جرى من أخطاء ومن اعتماد مقولة أولوية التقدم الاجتماعي ـ الاقتصادي على السياسي، فقد احتل الفكر الاشتراكي حيزاً واسعاً في منظومة الثقافة العالمية وما زال، نقطة مضيئة في تاريخ البشرية.

وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين أصبحت الديمقراطية أيديولوجية مهيمنة في العالم ومطلباً شعبياً لا يمكن الوقوف بوجهه أو رفضه، والبلدان العربية لم تكن بمنأى عن هذا التأثير الذي سيطر على المخيلة الإنسانية.

البلدان العربية والتحول الديمقراطي

مسألة الديمقراطية هي المسألة الأكثر إلحاحاً بين الأسئلة النهضوية الضاغطة على الفكر العربي الراهن، فالمواطن العربي يشعر بثقل ووطأة يصعب النضال فيها من أجل الأهداف الديمقراطية، فقد أضعفت أجهزة الدولة المجتمع المدني ومؤسساته إلى درجة كبيرة.

لقد عرفت البلدان العربية الشكل الديمقراطي في بداية النهضة العربية أولاً في مصر وبلاد الشام، وأتى ظهور الأحزاب السياسية ليشكل اللبنات الأولى للديمقراطية، ولكن الأنظمة الاستبدادية العربية التي وصلت إلى الحكم وفق آلية غير ديمقراطية ورثت تراثاً من الاستبداد الشرقي العثماني من ناحية والإرث التقليدي غير الديمقراطي وظهور فكرة الحزب الواحد، وأعطي هذا الاستبداد وظيفة وطنية وقومية تحت شعار الحفاظ على الأمة، ورفض أي إمكان للتعارض والتنوع الذي ترفضه، مما أدى إلى صعوبة بلورة وبروز قوى سياسية واجتماعية مؤثرة ذات مشروع ديمقراطي. أحزاب نقابات مؤسسات اجتماعية، شبابية نسائية، من القوى الرئيسة في المجتمع أي منظمات المجتمع المدني الركيزة الأساسية للديمقراطية، مما أفسد بدايات الديمقراطية في المجتمع العربي.

وثمة من يحيل الإخفاقات المتتالية في المشروع النهضوي العربي إلى ضعف الديمقراطية في هذه البلدان عقب هزيمة حزيران 1967 وصولاً إلى ما يشبه اليأس من قدرته على النهوض ومواجهة تحدي الحداثة.

إضافة إلى عجز الديمقراطية عن التحول إلى مكون بنيوي من مكونات الفكر السياسي والاجتماعي العربي، فيظهر التاريخ العربي أسير نمطية جامدة ورتيبة ليس فيها مكان للتطور والتحول والإبداع، تشكل عائقاً بين العرب والديمقراطية.

ورغم وطأة التاريخ العربي وثقله وذهنياته وأعرافه والولاءات الضيقة التي تتنازع إنسانه فإن المجتمع العربي لم يخضع للرقابة والجمود والنمطية، فقد عرف التاريخ العربي الثورة والرفض والخروج على الطاعة. كما عرف الفكر العربي الإبداع والانعتاق من مقولات التقليد والسلطوية.

تأثير الأوساط الحاكمة على النهج الديمقراطي في البلدان العربية

وصلت النخب الحاكمة إلى السلطة نتيجة انقلابات عسكرية، فاستولت على مقدرات الدولة ومارست حكماً تسلطياً عليها وهي مسؤولة ايضاً عن جمودها وحفاظها على الواقع المتخلف للبنى الاجتماعية وعدم ابتكار آليات جديدة للنهوض بأوضاع هذه البلدان.

وإضافة إلى مسؤولية النخب الحاكمة فإن المعارضة السياسية تتحمل أيضاً مسؤولية كبيرة، فقد كان عليها أن تمتلك القدرة على توجيه الأحداث أو التأثير فيها على الأقل، ولم تستخدم طاقاتها ونفوذها من أجل دفع التحولات الديمقراطية في مجتمعاتها، ويعود السبب إلى أن هذه المعارضة ضعيفة وليست ديمقراطية في الأساس، لأن التيار الديمقراطي بين المعارضين بقي تياراً ضعيفاً.

إن غياب هذه القوى يفسر إلى حد كبير تعثر الديمقراطية وهشاشة القوى الاجتماعية، وتجد عواملها في عدم انتظام التقدم الاجتماعي وتفاقمه وخضوعه هذه المجتمعات لأنظمة استبدادية، وهذا ما ينسف جوهر الديمقراطية ومضمونها.

إن المسألة الديمقراطية في بلدان العالم العربي مرتبطة بمسألة التنمية والاعتماد على الذات وتطوير التكنولوجيا والصناعة وتشغيل اليد العاملة واستثمارها في عمليات التنمية بعيداً عن إطار التبعية الراهنة. وهناك عوامل ثقافية وعلمية واجتماعية عديدة تساهم في إمكانية نجاح الديمقراطية في العالم العربي.

لقد جاءت الديمقراطية في الغرب نتيجة نضال وصراع طويل وشاق أدى إلى تحول البنى الاجتماعية وتطورها، وتقدم الثقافات التقليدية تدريجياً، بنيما بقيت البلدان النامية في حالة انحطاط وتهدم متعمد للتوازنات الاجتماعية الأكثر عمقاً لفترات طويلة، وهذا ما يوضح هشاشة وتخلخل البنى الاجتماعية في هذه البلدان وأهمية إيجاد حلول جديدة لمشكلاتها.. وينبغي التأكيد أنه لا وجود للديمقراطية دون نظام سياسي ديمقراطي وهذا أمر بديهي جداً. فالديمقراطية حالة اجتماعية ثقافية وسياسية.

فالسلطة السياسية ليست هي السلطة الوحيدة القائمة في المجتمع.

فهناك سلطة التقاليد والعادات والمؤسسات الدينية.

فإذا كانت الديمقراطية حالة عامة تنتفي فيها سلطة قامعة للإنسان. مثلاً حرية الإنسان في التعبير عن رأيه، سنجد أن السلطة السياسية ليست هي السلطة الوحيدة القامعة بل يقف إلى جانبها عدد من أدوات القمع الاجتماعية غير السياسية.

فالدعوة إلى الديمقراطية إن لم تكن دعوة عامة وشاملة لا يمكن أن تتحقق بوصفها معلماً من معالم حرية الإنسان المواطن.

والشيء الهام في مسألة الديمقراطية هو طابعها الاجتماعي الطبقي، فماذا تعني الديمقراطية إذا لم تترافق مع القضاء على الفقر والحد من استغلال فئة مالكة للثروة بحياة الناس؟ وهل هناك مجتمع أقسى من مجتمع تتحكم فيه فئة قليلة مالكة للثروة. كما أن الديمقراطية إلى جانب اعترافها بالحق فإنها قائمة على اعترافها بالآخر كذات إنسانية.

الديمقراطية وقضية المرأة

تبرز قضية المرأة في المجتمع العربي كأحد المقدمات الأساسية في وجه ثقافة الديمقراطية، ويمثل فقدان المساواة السياسية بين المرأة والرجل إحدى المشكلات المركزية لقضية الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي.

فالموروثات الثقافية العربية مشبعة بالمفاهيم والمعتقدات التي تسوّغ حرمان المرأة دورها الاجتماعي، وتشرع التمييز الواسع بينها وبين الرجل.

ورغم أن نضال المرأة العربية حقق مكاسب هامة في كسر هذه المفاهيم واكتساب بعض الحقوق التي لا تزال في حدها الأدنى، بينما لا تزال شريحة واسعة من النساء في المجتمعات العربية ترى ضرورة التزام تلك الموروثات والحفاظ عليها، وهو أمر لا يصب في صالح النضال الديمقراطي للمرأة.

وتتغذى هذه الموروثات من معتقدات دينية تحملها نصوص صريحة في تمييزها لغير صالح المرأة، فتكتسب هذه النصوص قوة قدسية وشرعية تصعب مخالفتها. فالخطاب الديني يرفض في أجزاء واسعة منه، النظر إلى قضية المرأة على أنها قضية اجتماعية في الأساس، ويرفض في المقابل قراءة النص الديني عبر ارتباطه بظروف تاريخية تغيرت خلال القرون المتتالية من الزمن، وتالياً لم تعد صالحة لعصرنا، وتتفاقم هذه النظرة بتقديم النظام الاجتماعي العربي لنفسه في صيغة ذكورية، فيصعب عليه أن يرى في غياب المساواة بين الرجل والمرأة غياباً لمبدأ المساواة في المجتمع كله.

وهكذا تواجه المرأة في المجتمعات العربية منظومة الإرث الاجتماعي والفكر الديني المتأصلة في بنية المجتمعات العربية، وتتغذى المنظومة الدينية من تاريخ عريق لا يقتصر على التاريخ الإسلامي بل يضرب عميقاً في المسيحية واليهودية، وتتفاوت المفاهيم الدينية في تطرفها واعتدالها ولكن تحتفظ بقواسم مشتركة. وترى في جوهرها حلولاً لمشكلات الإنسان والدولة والمجتمع، وأن التعددية والاختلاف وقبول الرأي الآخر قضايا قد تشكل خطراً على التوحيد الشامل ووحدة الأمة. كما ترى في الديمقراطية جزءاً من مشروع السيطرة الاستعمارية الغربية على الحضارة العربية.

وهذه إشكالية كبيرة في عملية الغياب الديمقراطي لأنه لا يوجد فصل بين الدين والدولة.

وللعلم والثقافة أهمية خاصة في تطور الديمقراطية، ولا تعتبر الأمية أبداً أرضاً مساعدة لذلك، وكما هو معروف فإن نسبة الأمية في العالم العربي هي أعلى نسبة قياساً إلى مناطق جغرافية أخرى في العالم. وتنعكس أزمة الثقافة هذه على الفكر السائد باتجاهين: الأول يحض على العدالة والمساواة وهو الوجه الأضعف، بينما الوجه الآخر يرفض المس بالعادات والتقاليد والثقافة الدينية التي تصب إجمالاً في إطار الوجه السلبي.. وهنا غلبة الفكر الغيبي وضعف الفكر العقلاني.

فالديمقراطية هي نتاج لمشروع ثقافي عميق يحتاج إلى زمن ومراحل ليصبح راسخاً في العقل الاجتماعي والسياسي لأي مجتمع. والديمقراطية بحاجة إلى تثقيف وتفعيل دور الأحزاب والنقابات والنظام القانوني والقضائي ووسائل الإعلام المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني والمناهج الدراسية. وهي مؤسسات ضرورية لإنجاح العملية الديمقراطية.

العدد 1104 - 24/4/2024