النجاحات الروسية على طريق «البريكس» و«شنغهاي»

لا شك بأن حالة التوتر التي تمر بها العلاقات الروسية – الأمريكية والناجمة عن مساعي واشنطن في تكريس ظاهرة هيمنة القطب الأمريكي على العالم ومنع روسيا أو أي قطب دولي صاعد آخر من أخذ دوره سياسياً واقتصادياً، هذه الحالة تؤثر في سياق العلاقات بين الدول الكبرى أو بين الشرق والغرب على وجه التحديد.

إن السباق نحو توسيع رقعة المحاور سمة بارزة من سمات حقبات الاضطراب الدولية، وعلى الوتيرة ذاتها انقسم العالم قبل الحرب العالمية الثانية، وإبان الحرب الباردة ازداد تنظيم الاصطفافات الدولية المتقابلة خلف الجبارين الأمريكي والسوفييتي السابق، علماً بأن الطرف الأمريكي كان دائماً هو المبادر إلى تنظيم هذه الاصطفافات وخلقها.

لقد فرضت الأحادية القطبية الأمريكية نفسها على العالم، مدعومة بتحالفات واسعة من الدول الغربية، وهي تسعى الآن إلى الدفاع عن هذه الأحادية بكل ما تملك من الإمكانات الهائلة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.. لهذا يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمساعدة المارد الصيني الصاعد تغيير هذه المعادلة، خاصة أن توسع النفوذ الغربي وصل إلى حدود بلاده عبر التمدد في أوكرانيا التي هي جزء من المحيط الحيوي الغربي الروسي.

قمة البريكس

من هنا تأتي أهمية قمة (أوفا) عاصمة إقليم بشكيريا الروسي التي عقدتها مجموعة البريكس (روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا) في 9 تموز 2015 سواء من حيث المكان والزمان، أو من حيث مضمون بيانها الختامي.

الاجتماع عُقد في خيمة عادة ما يستضيف فيها شعب بشكرستان كبار الزوار والضيوف، لكن اختيار هذا المكان يحمل أيضاً إشارة سياسية من فقراء الشرق إلى أغنياء الغرب، وفيه شيء من التحذير الطبقي، فدول مجموعة البريكس يعيش فيها ما يقارب الـ50% من عدد سكان العالم.

ومن حيث التوقيت جاءت قمة (أوفا) في توقيت متميز، ذلك أن التوتر بين روسيا والصين من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، وصل إلى مراحل متقدمة على خلفية التدخلات الأمريكية – الغربية في أوكرانيا، وفي بحر الصين الجنوبي، إضافة إلى الخلافات المحتدمة بين الجانبين حول مسائل اقتصادية ومالية.

أما ما جاء في البيان الختامي لهذه القمة، فقد حمل معه مجموعة من الدلالات التي لا توحي بالمهادنة بقدر ما تؤشر إلى تفاقم الخلاف.

لقد اتفقت دول البريكس على ضرورة الاستمرار في المساعي والتعاون فيما بينها لوضع حد لسياسة الاستفراد الغربي بالعالم، والسير في المقاربة الجديدة التي تعتمد على إقامة التعددية القطبية المبنية على التعاون.

وما كان بارزاً وواضحاً في البيان، هو التركيز على الموضوع الاقتصادي، وضرورة العمل بكل الوسائل لتقليص الهوّة بين الأغنياء والفقراء، عن طريق تغيير نمط عمل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، علماً بأن حجم اقتصادات دول مجموعة (البريكس) يتجاوز الـ30% من الاقتصاد العالمي، كما أن هذه الدول أنشأت في عام 2014 بنكاً للتنمية برأسمال مبدئي بلغ 100 مليار دولار أمريكي.

قمة (منظمة شنغهاي)

إذاً.. كانت قمة (أوفا) خطوة بارزة على طريق التصدي لسياسة تكريس الهيمنة الأحادية على العالم، وجاءت الخطوة الثانية في هذا السياق، فقد نظمت موسكو قمة أخرى لرؤساء دول (منظمة شنغهاي) في المكان ذاته، وبعد الانتهاء مباشرة من قمة (أوفا).. وقد ضمت هذه القمة الثانية رؤساء الصين وروسيا وأوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان وقرقيزيا.

جدير بالذكر أن منظمة شنغهاي التي انطلقت عام 2001 تحت شعار (تعاون الدول المتجاورة في الحدود) جعلت موسكو ترغب بأن يكون لها دور متقدم في مسار التجاذبات الدولية، وبضمن ذلك رسم سياسة دفاعية مشتركة. أما قادة حلف شمال الأطلسي فهم يتربصون بروسيا وحلفائها، ويعتقدون أن الرئيس فلاديمير بوتين يسعى إلى وضع منظمة شنغهاي، مقابل الحلف بعد أن تطور سياق عمل المنظمة من تعاون اقتصادي إلى تعاون سياسي له خلفيات عسكرية. في قمة منظمة شنغهاي في (أوفا) طالب الرئيس الروسي بتوسيع العضوية في المنظمة لتشمل دولاً مثل الهند وباكستان كمرحلة أولى، وإيران ومنغوليا في مرحلة ثانية.

ردود فعالة

إن روسيا تحاول الرد على الاستفزازات الغربية على حدودها الأوربية وفي مناطق نفوذها التاريخية في عدة مناطق من العالم، وذلك عن طريق حشد القوى المتضررة من السياسة الأمريكية في أكثر من مكان في العالم، ولاسيما في شرق آسيا وجنوبها، كما أن الصين بدورها تهاجم خطط تجميع خصومها التقليديين التي تعتمدها الولايات المتحدة في جنوب آسيا وشرقها، ولاسيما حل مشكلات اليابان مع الفلبين، وفيتنام مع كمبوديا، بحيث يؤدي هذا الحل إلى الاستقرار في المنطقة، لأن هذا الاستقرار أمر ضروري لمسيرة نمو الاقتصاد الصيني الصاعد والذي يتفوق على غيره من الاقتصادات الأخرى. بالمقابل فإن الهند لها مصالحها الخاصة، فهي تتطلع إلى مواصلة التقدم والصعود اقتصادياً وسياسياً، وإن كانت تجمعها مع الولايات المتحدة سلسة من المصالح الاقتصادية، إذ إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما وعد الهند أثناء زيارته الأخيرة لها في كانون الثاني 2015 برفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليار دولار، إضافة إلى تقديم قروض ميسرة بقيمة 4 مليارات دولار.

باختصار.. إن روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين أثبتت قدرتها على تحريك المياه الدولية الراكدة تحت صفائح السفن الأمريكية، ولكن بالطبع هناك معوقات لا يمكن تجاوزها بسرعة وإنما تحتاج إلى تأن ونفس طويل وعقلانية فائقة، وهذا ما تعمل روسيا على هديه، محققة الانتصار تلو الآخر على حلف شمال الأطلسي العدواني، لأنها والدول المتحالفة معها في منظمتَيْ (بريكس) و(شنغهاي) على حق.

العدد 1105 - 01/5/2024