أعيدوا النظر

لا يجادل اثنان في أن صبر الشعب السوري وطول معاناته وتحمّله لمختلف أنواع الصعوبات طيلة السنوات الأربع الماضية قد كان له أكبر الأثر في صدّ أعتى هجوم إرهابي وتكفيري واستعماري في التاريخ المعاصر، فلا يكفي أن يسطّر الجيش العربي السوري أعلى درجات البطولة في مقاومة المرتزقة والمتدخلين الأجانب، ولا يكفي أن تبدي الدولة السورية بكامل أجهزتها تماسكاً واستمرارية كبيرين، كما لا يكفي الدعم القوي الذي يقدمه حلفاء سورية على المستويين الإقليمي والدولي لإحباط المخطط التآمري الوحشي عليها، فكان لصمود الشعب السوري، وحسن تقديره للظروف الصعبة، وتفهّمه للخط الوطني الذي سارت وتسير عليه دولته، أكبر الأثر في شلّ فاعلية هذا المخطط الرهيب وبدء تحوله نحو التراجع.

لقد قدم هذا الشعب قوافل هائلة من الشهداء، والجرحى، وتحمّل بصمت عجيب مصائب التشرد، واللجوء، وفقدان الغذاء، وارتفاعات الأسعار المتتالية، كما تحمّل البرد القارس وقساوة الطبيعة التي لا ترحم، كما كان يشاهد بأم عينيه إساءات تجار الحروب وجشعهم وتطلعهم إلى استغلال الأزمة أبشع استغلال، كل ذلك يستند إلى تقديره لفداحة الخطر الذي يتهدد الوطن الذي يحب.

وكان يتوقع من كل الحكومات التي تعاقبت عليه منذ بداية الأزمة حتى الآن، أن تسعى لتخفيف العبء المعيشي الذي يثقل كاهله، ولم يكن مغالياً في متطلباته التي اقتصرت على ما هو ضروري للحفاظ على عيشه بكرامة وإنسانية.

وكان شعبنا يحدوه الأمل على الدوام في أن بنية الاقتصاد السوري ستسمح تسمح له بالصمود وتلبية احتياجاته الأساسية وخاصة سياسة الدعم الحكومي لأسعار سلع الاستهلاك الشعبي الواسع.. لقد شكّل هذا الدعم خطاً دفاعياً متيناً ضد تآكل أجور العمال والفلاحين والموظفين، وذوي الدخول المتوسطة والصغيرة عموماً.. ومداخيلهم. صحيح أن قسماً منه كان يذهب لغير المستحقين، ولكن نسبته العظمى لم تكن كذلك.

وقد اتبعت الحكومات المتعاقبة سياسة التدرج في تقليص الدعم، إلى أن فوجئ المواطنون بالقرارات الأخيرة الصادرة عن الحكومة، فيما يتعلق بزيادة أسعار المازوت والغاز والخبز، لتنهي من الناحية العملية سياسة الدعم من أساسها، وكان المبرر المعلن رسمياً لذلك هو تغطية العجز في موازنة الدولة، عن طريق رفع أسعار مادة المازوت لتصل إلى حدود كلفتها (أي دون دعم).

والمفاجأة كانت أن التسعير الجديد لمادة المازوت الواسعة الطلب، لم يؤمّن للدولة وفراً يذكر، ولم يساعد في تخفيف العجز في موازنتها، فالمليارات الستة التي وُفّرت لا تعني شيئاً بالمقارنة مع الحجم الكبير للعجز في الموازنة، الذي أعلنه عنه وهو (36%).

أما القول بأن توزيع تعويض معيشي (للعاملين في الدولة والعمال النظاميين في القطاع الخاص، قيمته أربعة آلاف ليرة سورية لكل فرد)، سيؤدي إلى التعويض عن رفع أسعار بيع المادة للمستهلكين، فهو قول يجافي حقيقة أن أسعار كل المواد الأخرى غير المازوت قد ارتفعت فوراً، وبنسبة لا تقل عن 45%، وبإمكاننا أن نتخيل وضع الفئات الواسعة التي لم يشملها التعويض المعيشي، والتي ستتحمل عبء ارتفاع أسعار جميع المواد في الوقت ذاته، كالفلاحين والعاطلين عن العمل على سبيل المثال.

وإذا كان الشرح الاقتصادي للموضوع هو أمر قد تناولناه مرات عديدة، كان آخرها في العدد الماضي لـ(النور)، فإن واقع القطاعات الصناعية والزراعة والأسواق، والصدمة التي شعرت بها الفئات الفقيرة والمتوسطة خير مثال على أن الحكومة في قراراتها الأخيرة، وبرفعها المتتالي للدعم عن المواد التي تمس حياة الناس مباشرة، قد خطت الخطوة الكبرى في طريق إزالة الدعم، وأدخلتنا في (متاهة) الاقتصاد الليبرالي الحر، وتعويم الأسعار، وهي خطوة لم تجرؤ الحكومات السابقة على اتخاذها، رغم محاولات فريقها الاقتصادي القيام بذلك.

وبسبب حرصنا الشديد وقناعتنا بأن شعبنا الذي عانى وصبر وصمد.. يستحق المكافأة، على أن نكافئ الشعب على صبره وصموده، لا أن نسبب له المزيد من المتاعب والآلام.. ولاعتقادنا أن حلولاً عدة يمكن اجتراحها، وهو ما يمكن أن يصفه اختصاصيون اقتصاديون، فإننا نؤكد هنا رأينا المعلن سابقاً، وهو ضرورة إعادة النظر بالقرارات الأخيرة رفع أسعار المحروقات، وإحالة الموضوع إلى مجلس الشعب لإعادة دراسته من قبل لجنة متخصصة، ووضع حدود لحرية الحكومة في اتخاذ قرارات مفصلية من هذا النوع.

العدد 1107 - 22/5/2024