مبادرة جديدة لتوحيد الحركة الشيوعية في ألمانيا

لا شك أن التشرذم هو أحد المصادر الرئيسة لضعف الحركة العمالية، وخصوصاً الشيوعية. وأسباب ذلك متنوعة، من بينها تعدد الأحزاب والجماعات الشيوعية وتنافسها وحتى المعارك المتبادلة العقيمة. ويسرّ لذلك الرأسماليون ومرتزقتهم السياسيون.

كيف تستعيد الحركة العمالية الشيوعية قوتها مثلاً في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق إذا كان هناك أكثر من مئة حزب شيوعي، أكثرها غير شرعي؟ في روسيا وحدها يوجد أكثر من عشرين حزباً بعضها جماهيري، لا بل لديه تمثيل كبير في الدوما. والتشرذم أيضاً من نصيب الحركة الشيوعية الألمانية إذ ينشط هناك أكثر من عشرة أحزاب وجماعات مختلفة ترتبط بالماركسية، أشهرها الحزب الشيوعي الألماني، والحزب الشيوعي في ألمانيا، والمنبر الشيوعي في حزب اليسار، وكذلك أحزاب أخرى. يضم كل منها بضعة آلآف عضو وصديق، ويصدر بعضها صحفاً ودوريات جيدة، ولكن ليست لديها في النظام الانتخابي الحالي في جمهورية ألمانيا الاتحادية فرصة تخطي حاجز الخمسة في المئة. الاستثناء هو حزب اليسار الذي ينشط بشكل رئيسي في الأراضي الشرقية ومنبره الشيوعي الداخلي المستقل ذاتياً.

وهذا الحزب إجمالاً اشتراكي ديمقراطي أكثر توجهاً نحو اليسار، وهو وريث حزب الاشتراكية الديمقراطية القديم، كان هذا الاسم عبئاً على قيادته برئاسة غيزي وبيسكي، فتخلت عن كلمة اشتراكية، واستعاضت عنها باليسار، الأفضل ملاءمة للنظام.

الوضع في ألمانيا

يوجد في ألمانيا نحو عشرة أحزاب وأوساط شيوعية مهمة. نشأ الحزب الشيوعي الألماني في ستينيات القرن الماضي في جمهورية ألمانيا الاتحادية السابقة. وهو حزب سمحت له السلطة بالنشاط العلني، ولكن بعد التخلي عن مبادئ أساسية في الأيديولوجية الشيوعية، منها شعار ديكتاتورية البروليتاريا. قبل ذلك، في عام 1956 أصدرت المحكمة الدستورية في جمهورية ألمانيا الاتحادية قراراً بحل الحزب الشيوعي في ألمانيا بحجة أنه ستاليني ويهدد النظام الرأسمالي الديمقراطي. وفي عام 1989 انبعث على أرض جمهورية ألمانيا الديمقراطية الحزب الشيوعي في ألمانيا الذي ينشط بشكل رئيسي في المناطق الشرقية. ويوجد (المنبر الشيوعي) في حزب اليسار الذي يخفي كورقة التوت طابعه الاشتراكي الديمقراطي. ومن بين الأحزاب الأقل نشاطاً الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني في ألمانيا ذو الطابع الماوي، وينشط في المناطق الغربية اتحاد الشيوعيين الألمان، وينشط في بافاريا اتحاد إعادة بناء الحزب الشيوعي في ألمانيا. وثمة أوساط مهمة هي هيئات تحرير الصحف والجمعيات الاجتماعية التي تتبنى الماركسية أو الماركسية اللينينية، ويؤكد بعضها المحتوى المعادي للستالينية والقريب من التروتسكية. المنظمة الأهم هي جمعية (روت فوخس) التي تصدر شهرية تحمل الاسم نفسه تعالج القضايا النظرية والتاريخية والسياسية والاقتصادية المهمة في ضوء الاشتراكية العلمية. برنامجها واسع وتحاول أن تضم في صفوفها الشيوعيين والاشتراكيين تحت شعار (يا عمال العالم اتحدوا). تضم الجمعية في منظماتها الميدانية نحو ثلاثين ألف عضو، وتعقد لقاءات منتظمة ونقاشات وتشارك في المظاهرات الجماهيرية.

وتمكنت المجلة من جمع مثقفين من البلد والخارج يعرضون فيها آراءهم. رئيس تحريرها كلاوس ستينيغر. ويوجد في نورمبرغ وسط قوي من الماركسيين يصدرون شهرية (كومونيستيشه أربيرترزيتونغ)، وفي هانوفر (أوفنسيف) وفي فرانكفورت (أربيتر ستيمه)، وغيرها. هذه إجمالاً طاقة تنظيمية وفكرية مهمة ولو توحدت في حزب واحد لحققت بالتأكيد نتائج أفضل بكثير. جرت في الحقيقة بعض محاولات للتفاهم بين الحزب الشيوعي في ألمانيا والحزب الشيوعي الألماني. ولكنها لم تجلب نتائج كبيرة. تلتقي جميع هذه المنظمات في كل عام خلال مظاهرة كانون الثاني في برلين لتخليد ذكرى كارل ليبكنيخت وروزا لوكمسبرغ اللذين اغتيلا في كانون الثاني 1919 وكذلك في المظاهرات المناهضة للفاشية في درسدن في شباط، ومسيرات السلام في المناطق الغربية، وبدرجة أقل في اللقاءات الدولية. المشكلة هي أن هذه المنظمات تنشط منفردة، وفي الكثير من الأحيان تتنافس فيما بينها، لا بل تتحارب، تبرز بينها فوارق سياسية وأيديولوجية، وكذلك في تقويم الماضي، وهذا الوضع يقوّي بالتأكيد الحركة العمالية بل يقوي خصومها. هذا في الوقت الذي تزداد فيه في ألمانيا التهديدات للشغيلة من جانب الرأسمال الكبير. يصوت قسم كبير من الطبقة العاملة الألمانية تقليدياً للاشتراكية الديمقراطية التي أثببت غير مرة أن هدفها الحفاظ على الرأسمالية مع بعض التعديلات التجميلية. واستمر هذا الوضع بفضل الاستقرار النسبي للاقتصاد الألماني ومكتسبات الدولة الاجتماعية القديمة. ويجري في الوقت الحالي تقليص البرامج الاجتماعية في إطار الإصلاحات ويتردى وضع الشغيلة، وتقدر البطالة الفعلية بنحو إلى 9 ملايين إنسان. وتتعمق الأزمة الاقتصادية مع الأزمة الاجتماعية. وتنشط في ألمانيا قوى اليمين المحافظ، ليس فقط في إطار الحزب الديمقراطي المسيحي، بل كذلك الفاشية الجديدة، وبعضها أصبح ممثلاً في البرلمانات الإقليمية وتحاول السيطرة على الشارع.

الحزب الشيوعي التوحيدي

في هذا الوضع تزداد الحاجة إلى تقوية الحركة الشيوعية، وعلى هذه الخلفية ظهرت مبادرة جديدة في درسدن وبرلين وبوتسدام لتنظيم هيئات شبيهة بـ (لجان مراسلات الشيوعيين) في القرن التاسع عشر يمكنها التنسيق بين الأحزاب والجماعات الشيوعة وتقريبها وتوحيدها وكذلك الأفراد في نوع من الكونفدرالية، مع إمكانية تحويلها في المستقبل إلى منظمة متجانسة. وفي اجتماع لجنة المبادرة في 13- 15 أيلول 2013 في بوتسدام شارك 14 رفيقاً لم يناقشوا القضايا الملحة في الحركة الشيوعية الألمانية والعالمية فحسب، بل حددوا كذلك القواعد الأساسية لنشاط هذه الجماعة، وأقروا اسم الحزب الشيوعي التوحيدي بقيادة الرفيق لوتار هاوبي، من درسدن. دعا المنظمون إلى اللقاء ممثلي قيادات الأحزاب والجماعات والأوساط الشيوعية التي رفضت عادة المشاركة أو أبدت تحفظاً، ولكن حضر إلى بوتسدام رفاق من تلك الأوساط بمبادرتهم وأبدوا الدعم للمشروع.

يصعب أن نحكم ماذا سينتج من هذه المبادرة. وقد برزت قضية: هل يسمح بالازدواجية الحزبية؟ وتبرز فوارق أيديولوجية. وعلى كل حال يستوطن الرأي القائل بضرورة ظهور شكل من الوحدة أمام تحديات العصر.

العدد 1107 - 22/5/2024