حركة حماس بين استراتيجية الردع الإسرائيلية والتمسك بخيار المقاومة

تستهدف استراتيجية الردع (الإسرائيلية) تحقيق أهداف الحرب دون اللجوء لخوضها، وإذا ما نشبت تكبيد (الخصم) خسائر فادحة وحرمانه من استغلال طاقاته القتالية، وإفقاده القدرة على مواصلة القتال، وقد حققت هذه الاستراتيجية أغراضها وأهدافها على المستوى الرسمي العربي، مُعبراً عن ذلك بتوقيع اتفاقات سياسية تنتقص من الحقوق الوطنية والقومية (اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 مع مصر، اتفاقية أوسلو مع م.ت.ف عام 1993 واتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994).

وليس بعيداً عن هذه الاستهدافات، حين أقدمت (إسرائيل) على الانسحاب من قطاع غزة 2005 بدون الاتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية حيث استهدفت فيما استهدفته زرع بذور الانقسام في الساحة الفلسطينية، وضر التماسك الاجتماعي والأهلي للشعب الفلسطيني. فقد قال رئيس شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي أهارون فوكاش: (إن صراعاً سينشب على السلطة بين أجهزة السلطة الفلسطينية ومحور دحلان ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمود عباس).

في مطلع 2006 جرت انتخابات تشريعية، وفازت حماس بأكثر من 70% من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، مما مكنها من تشكيل ما سمي بحكومة ائتلاف وطني (حماس وفتح) برئاسة إسماعيل هنية، التي مهدت الطريق لقيام حركة حماس بالانقلاب الدموي على السلطة الفلسطينية في القطاع وتشكيلها حكومة 2007 من لون واحد، دون مشاركة أي من القوى السياسية الأخرى، تلك الحكومة التي شكلت المقدمات العملية لشق طريق الانقسام بين الضفة وقطاع غزة على الصعد المختلفة.

وتحت شعار ترميم واستعادة مصداقية (الردع) واستمراراً لسياستها العدوانية، وبهدف تعميق الانقسام على الساحة الفلسطينية عمدت إسرائيل إلى القيام بأربع عمليات عسكرية واسعة وحربين ضد القطاع خلال 10 سنوات.

لقد وضعت حرب (الجرف الصامد) الأخيرة أوزارها الميدانية، (7 تموز -26 آب 2014) دون أن تدرك نهايتها السياسية، التي ما زالت تداعياتها تتفاعل في الإطار التي شُنت فيه (استراتيجية الردع الصهيونية) وفي المجالات المختلفة على الصعيد الفلسطيني…

فعلى الرغم من الجهود التي بذلت على مسار المصالحة وإنهاء الانقسام، وصولاً وما بعد لاتفاق الشاطئ 23 نيسان 2014 بين حركة حماس وحركة فتح، للمصالحة، إلا أن الاتفاقات واجهت المزيد من الفشل الذي ما زال مهيمن على تلك الجهود والهوة آخذة في الاتساع والتعمق ليس بسبب الصراع على المصالح والسلطة فقط، بل تعود أيضاً إلى السياسات والرؤى التي تنتهجها حركة (حماس)  في المجالات المختلفة (السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والإعلامية….)، المرتبطة بتنظيم الإخوان المسلمين الدولي التي تقوم على التفرد بالسلطة ونبذ مبدأ (المشاركة)، كما دلت على ذلك تجربة حكم الإخوان المؤقتة، في مصر 2014 وتجربة حركة (النهضة) التونسية، وتجربة حركة حماس في قطاع غزة، بدءاً من رفضها المشاركة في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة عام 1987 وصولاً لتشكيل حكومتها الخاصة 2007 ذات اللون الواحد، التي تعتبر في الواقع الأداة الفعلية لمؤسسة الانقسام الفلسطيني، إذ عملت (حماس) على إبراز نفسها كقوة وحيدة في مواجهة العدوان الصهيوني عام 2014 مستغلة الصمود الشعبي والميداني القتالي الذي سطره الشعب الفلسطيني ومقاومته المسلحة، لتبرير التفاوض بشكل مباشر أو غير مباشر مع الكيان الصهيوني.

في هذا السياق يمكن تلمس التحولات التي طرأت على مواقف وسياسة حركة حماس اتجاه العدو، التي وشت بها تصريحات نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أبو مرزوق في لقاء مع الإعلامي (عماد فرنجي) على فضائية القدس 11 أيلول 2014 التي أعلن فيها استعداد حركة حماس للتفاوض مع إسرائيل.

لم تصدر هذه المواقف كرد فعل آني أو نتيجة نزق برجوازي صغير بقدر ما تعبر عن حقيقة رؤية الإخوان المسلمين الفئوية للتعامل مع (إسرائيل) وبما يحمل ذلك من إشارات واضحة على إقرار مبدأ التفاوض مع العدو وبشكل مباشر، الذي يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاستجابة لتداعيات (استراتيجية الردع الصهيونية).

 ولم تقف مؤشرات هذه الاستجابة عند حدود تصريحات أبو مرزوق التي أعقبت الحرب، بل اتبعت برؤى عديدة تشير إلى أن تداعيات هذه الاستراتيجية قد نجحت في إلحاق حركة حماس للمسار السياسي للسلطة الفلسطينية، بدءاً من إقرار مبدأ التفاوض والاعتراف بالدولة الفلسطينية على المناطق المحتلة عام 1967 واحترام الاتفاقات الدولية…

 الجديد في هذا المضمار، ما ورد على لسان القيادي في حركة حماس المهندس عيسى النشار أن غزة تتجه نحو انفراجة خلال المرحلة المقبلة تتمثل في حراك من بعض الشخصيات الفاعلة عبر مقترحات لحل الإشكاليات العالقة وأسطول الحرية القادم من عدة دول أوربية، مستبعداً نشوب حرب مع إسرائيل بالمطلق…وإن هناك حلول في الأفق، وبدائل كإنشاء ميناء غزة بديلاً عن معبر رفح… فهل يمكن أن يتم إعادة بناء الميناء بدون موافقة إسرائيل؟ هي لم توافق على زيادة عمق المياه المسموح للصيادين التنقل فيها (من 6الى 12 كم).

في سياق متصل، نقل موقع (دنيا الوطن) الإلكتروني أن مجموعة (مشروع المساعدة الموحدة) في الولايات المتحدة تقدمت بمقترح لإقامة مطار في قطاع غزة تديره الأمم المتحدة، ويقوم على أساس تجنب تشكيل أي خطر على (إسرائيل)، وأنها أنشأت قنوات اتصال مع مختلف الأطراف والأفراد لتطوير صيغة عملية لكيفية تشغيل المطار، وأن الفكرة تقوم على أساس إدارة غير فلسطينية للمطار، وأن يقام في مجمع (غوش قطيف) الاستيطاني السابق، وسيستخدم لتسهيل سفر فئات معينة (طلاب، مرضى، ذوي الحاجات الماسة… وأن الطائرات ستنقل الركاب إلى ثلاث أو أربع نقاط في (تركيا وتونس والجزائر أو المغرب…). مؤكدة أن المطار سينسق أمنياً مع دولة الاحتلال، لكن دون تواجد أي طرف إسرائيلي داخله). وهذا ما يمثل أحد أوجه الصراع على السلطة والتقاطع في التخلي عن نهج المقاومة المسلحة،بين اليمين الفلسطيني العلماني (فتح) وبين اليمين الديني الرجعي الذي تمثله حركة حماس. أضف إلى ذلك لجوء حركة حماس إلى شق طريق ترابي موازي للشريط الحدودي بين قطاع غزة والمناطق المحتلة المتخمة لحدود القطاع دون تعرض إسرائيل لها، مسألة تثير التساؤلات ما أهمية هذا الطريق؟ ولماذا الآن؟ في الوقت الذي ما زالت فيه أنقاض الشوارع البيوت المدمرة جاثمة في أماكنها دون سؤال. لا بل دلالات زيارة وزير الخارجية الألمانية إلى قطاع غزة في أوسط أيار يرافقه 60 شخصية  وعقده مؤتمراً صحفياً في الميناء، العديد من المعاني التي تحملها هذه الزيارة من بحث في عملية تبادل للأسرى إلى لعب دور دولي في القطاع.. عناوين تصب في صالح الكيان الصهيوني ستظهر خفاياها في الأيام القادمة.

إن من الخطأ التعامل مع مواقف حركة حماس التي أعطت تشكيل حكومتها الخاصة عام 2007 باعتبارها مواقف منفصلة أو ردود فعل آنية، بقدر ما يمكن اعتبارها سلسلة من مسار تقود جذورها لعقيدة (الإخوان المسلمين)، التي تنبذ فكرة الوطن والوطنية، ومعاداتها للقومية العربية

  لمواجهة أزمة المشروع الوطني الفلسطيني والتحديات الداهمة الناجمة عن تداعياتها، وتحصين الموقف الفلسطيني في مواجهة الضغوط الأمريكية والغربية، بالضرورة أن يصار إلى تبني استراتيجية وطنية موحدة تهدف إلى إدارة الصراع ضد الكيان الصهيوني على مختلف الجبهات (جبهة القدس وتهويدها، جبهة الاستيطان في الضفة الغربية، جبهة قطاع غزة كقاعدة ارتكاز للمقاومة المسلحة، وجبهة المناطق المحتلة عام 1948 وما ينتظر مواطنيها الفلسطينيين من مخططات تهجير وطرد.)

في الوقت ذاته تشكل الأرضية الموضوعية لإعادة تفعيل البعد القومي العربي في الصراع الفلسطيني الصهيوني، والحد من التداعيات السلبية لمقولة (القرار الوطني المستقل) التي يتخذ تحت مظلتها العديد من العبوية السياسية، التي لا تخدم المصالح الوطنية والقومية العليا للشعب الفلسطيني.

العدد 1105 - 01/5/2024