قوة المؤسسات ودورها في سورية القادمة المتجددة المتطورة

لا يستطيع أي كان أن ينسى ما قدمته السياسات الاقتصادية الاجتماعية وحتى بعض العلاقات السياسية الدولية من زخم وقوة وصلابة، جعلت سورية تواجه المشاكل المعرقلة لمسيرتها والحصار الكبير الذي فرض عليها وتخرج منه لتصل إلى مجتمع صلب متجانس عماده طبقة وسطى منصهرة وازنة للمجتمع وقائدة لتطوره المتكامل. فمن ينكر الأمن الغذائي الذي وصلنا إليه وأصبحنا نصدّر الكثير من المنتجات الغذائية والخضروات والحبوب والقطن والشوندر وفق أبحاث وطنية مبتكرة لبذار منتجة وموفرة استيرادها، ووفق أسمدة مصنعة محلياً وفائضة؟ ومن ينسى التطور الصناعي والحرفي لمنتجات تحويلية ولمرحلة اكتفاء ذاتي من الكثير من الصناعات النسيجية والغذائية والدوائية؟ ومن ينكر التطور العمراني والبنى التحتية من كهرباء وطرق وسدود ومطارات وغيرها؟ ومن ينكر التقدم الخدماتي الذي وصلنا إليه من صحية وتعليمية كانت متاحة للكل؟ ولا يغيب عن أحد الاحتياطي النقدي الذي تكوّن من لاشيء ليصل إلى حدود 25 مليار دولار، وأمراض اجتماعية قليلة من حيث الفساد والبطالة والفقر، وقد يكون هناك عدم توازن للتنمية بين مناطق ومناطق، ولكن وصلنا إلى مرحلة التنمية المستقلة شبه المتوازنة المستمرة.

كيف لا يكون ذلك وقد كان هناك دور للمؤسسات وبقايا قيم وأخلاق للكوادر البشرية جعلت الخروج عن الأخلاقيات العامة صعباً ولابد من المحاسبة، فقد كان يوجد مؤسسات وذخيرة صلبة أخلاقية وقيمية منبثقة من الحياة السياسية في فترة الخمسينيات والستينيات وما أدت إليه من صلابة بنيوية ومبادئ عقائدية. ومن هنا لا يمكن لأي كان أن يفاجأ كيف وقف البعثيون في درعا وإدلب والدير في مواجهة من كان يحاول القتل والتدمير، فأكيد سيقفون مع من منحهم الأمان والاستقرار، مع الدولة التي كانت تدعم لهم كل شيء ليتحولوا إلى طبقة وسطى متوازنة منصهرة. الأسمدة مدعومة، البذار، المحاصيل، الوقود، النقل وغيرها، وإن كان هناك بعض الخلل في تلك الفترة بالنسبة للحريات، ولكن ذلك لم يمنع من تنمية عميقة قوية. وحتى الآن ما زلنا نحافظ على كيان الدولة وصمودها من انعكاسات تلك المرحلة وبنيانها القوي.. وأكيد لم ولن يفاجأ الكثيرون مما وصلنا إليه وإن فاق التصور وفاق الخيال من تدمير وقتل وتهديم لتنمية لو عرف كيف تدار وتستمر لوصلت سورية إلى مستوى الدول المتطورة عالمياً، فالبنية التحتية التي وصلت إليها سورية تضاهي أغلب دول المنطقة وحتى العالم. تلك البنى التي دمر معظمها نتيجة الصراع الذي كان من أهم المهيئات البنيوية له هشاشةُ البنى نتيجة الخروج المدمر عن النهج الاقتصادي السائد، وإضعاف دور المؤسسات، لتقوية مراكز نفوذ على حساب المؤسسات. فُرضت برامج وسياسات اقتصادية واجتماعية وإعلامية ودينية شوّهت البنى ولم تستطع مواجهة الهجوم الثقافي المعولم، ولم تستطع تقوية البنى، وإنما لم تكن تمانع بأن تفسد البشر لتمرير ما يناسبها من سياسات حتى لو انعكست على أمن الوطن وكيانه، فاللعب بسعر المحروقات وما رافقه من هجرة داخلية شكلت ضغطاً على المدن الكبرى وهجران الفلاحين لأراضيهم وعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي وأثره على الأمن الغذائي بكل محاصيله وخاصة الاستراتيجية القمح القطن والشوندر، وما فُرض من سياسات مالية ورفع الرسوم والضرائب أرهقت المواطنين والاقتصاد وما رافقها من سياسات تعيينات لا تأخذ معايير الكفاءة والحاجة، مدعومة بالتعامي عن المحاسبة، مع مؤسسات رقابية مهمشة مسلطة لتفريغ القطاع العام من الكوادر الشريفة النزيهة وحامية لمن عُيّن بالمحسوبية والولاءات.. إفساد البشر دمر الحجر وتفريغ الناس جعل كل شيء مباحاً.. كيف ستظل البنى قوية وداعمة في ظل فرض سياسات اقتصادية واجتماعية تخالف ما نظّر له من اقتصاد السوق الاجتماعي ليصبح اقتصاد السوء الاجتماعي المدمر المهشم، ومن دون أي محاسبة لمن تبناه وسار به هو وكل طاقمه وكوادره.. مسؤولون أكيد عما جرى وليس عما وضعوا لخدمته كبلد وبشر.. مسؤولون يملكون أقلاماً وأشخاصاً ضجيجهم كالأبواق لجر البلد إلى المفترق القاتل الذي كانت أغلب المؤسسات والأحزاب تنقده وغير راضية عنه، ولكن هيهات! إلا يحق لهؤلاء نقد ما فرضه الأشخاص الضبابيون على الغير وواضحي الرؤى أو عرقلته. فوضى كبيرة وعارمة نتيجة أكيدة لسياسات فرغت مناعة البشر ومقاومتهم. فأي مناعة للفقر أو التشرد أو للبطالة؟ للأسف وخلال الصراع الذي مازال مستمراً لم يغير أغلب هؤلاء الأشخاص رؤاهم وطموحهم من حيث فرض السياسات والعلاقات والنظرة إلى المؤسسات بأنها تابعة لهم ولا يحق لقوتها أن تزيد لتقود سورية الغد بما تراه من برامج منطلقها العقلية السورية المتجذرة الواعدة الحالمة القادرة على الوصول إلى حل سوري سوري ينبثق عنه مؤسسات مختلفة مدنية وعسكرية تملك الرؤية والبرامج، للسير قدماً بما تمليه المتطلبات السورية من كوادر وعلاقات ومن احتواء للفرقاء الوطنيين، ومن مواجهة أس الفساد ومن أوصل البلد إلى ما نحن فيه، تبعيته للخارج وأفكاره مبرمجة منهم. فكيف سيكون الغد منيراً في ظل قضاء مشوه وتعليم تأخر سنوات وبكوادر جفت لدى الأكثرية قيمها وأخلاقها؟ كيف سيكون القادم منيراً في ظل أحزاب مفرغة من فاعليتها ومن الإطار الجمعي لمواقفها ورؤاها، وفي ظل التعامل وفق مبدأ الأم والضرة مع البعض؟ كيف سيكون القادم جميلاً بلا مؤسسات قوية قادرة على ضبط المجتمع السوري الذي استفحلت فيه الفوضى واللامبالاة وكشف الصراع الكثير من العورات. الحرية المنضبطة بضوابط وطنية ضرورة ملحة بما يخدم مرحلة البناء والاستمرارية التنموية ولعدم الانقهار أمام الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية السلبية للأزمة من دمار وأمراض أجتماعية كثيرة، وتدنى حجم الخدمات وجودتها، وأمراض جديدة لابد أن تنشأ، ولمواجهتها لا بد من برامج واضحة لأي تأطير أو جمعية أهلية أو خيرية، وسيكون للمجتمع الأهلي دور هام كبير في بدايات إعادة الإعمار والبناء،فالحاجة ملحة لأي طاقة وتأطير هذه الطاقات ضمن تجمعات وأحزاب، وإنعاش الأحزاب القائمة وإعطائها دورها الوطني ضمن النطاق المتفق عليه ضرورة حتمية، وكذلك لا يمكن لأي كان أن ينسى الدور المنوط بالإعلام، وجعله سلطة رابعة مراقبة وسيفاً مسلطاً على كل الاختلالات ومنبراً لكل الوطنيين البنائين. ولا يغيب عن بال أي متابع القصور والضعف الذي ظهر في المؤسسة الدينية وعجزها عن الوصول إلى مجتمع يستفيد من أخلاقيات الأديان التي هدفها مجتمعة إنساني بنّاء ووطني منوّر. ولكن للأسف، وكأن الكثير من كوادرها نسوا أو تناسوا جوهر الرسائل التي قامت من أجلها الأديان، وكذلك أن يكون للمثقفين والنخبويين الحقيقيين لا الكرتونيين الذين صنعوا ليخدموا مشاريع شخصية أبعد ما تكون عن الوطن، دور مهم في التثقيف والاحتواء بإعطائهم الوقت والمكان المناسب لممارسة ما يمليه عليهم الوطن من واجبات.

 لا يمكن أن نعيد لسورية دورها وألقها من دون إعادة الاعتبار للمؤسسات الوطنية القوية القائدة الفاعلة بما يفصل السلطات، ويكون القانون هو المرجعية والضابط لدور كل منها. لا يمكن لأي عاقل أن يقبل بالعودة للوراء، ولا يمكن لأي إنسان أن يقبل أن تذهب الدماء الطاهرة سدى بلا ثمن، لم نكن ولن نكون متعصبين لأي شيء سوى لسوريتنا، وأصبحنا أكثر تعصباً، فأي سوري أقرب وأخ لنا من غير السوري، ولن نقبل سوى بما يرضي أصحاب الحقوق ويحقق العدالة وأن يكافأ كل على فعله. سورية باقية بقوة بنيانها وقوة شعبها الذي لم ولن يقهر عبر التاريخ الحديث والقديم، القادم جميل بقدر ما نعمل بشرف وإخلاص ومن دون كلل أو إقصاء لأي كان، ما دام هناك قانون جمعي ضابط وهناك أسس تعيين ومحاسبة لا تحابي أياً كان ما دام يحس نفسه فوق القانون وفوق سورية، سورية باقية وكلنا راحلون.

العدد 1107 - 22/5/2024