المسألة اليهودية.. تفسير ماركسي

يحمل الفصل الرابع العنوان التالي (اليهود في أوربا بعد عصر النهضة)، وفي بدايته ينقد ليون نظرية (سومبارت) عن (اليهود والحياة الاقتصادية)، تلك النظرية التي تمجد الدور الاقتصادي لليهود بشكل مبالغ فيه، إذ تدعي أن (اليهود دفعوا النهضة الاقتصادية في البلدان والمدن التي استقروا فيها إلى الأمام، وأدوا إلى الانهيار الاقتصادي في البلدان والمدن التي هجروها)، ويدعي (أنهم مؤسسو الرأسمالية الحديثة)، برهن ليون على عدم صحة نظرية (سومبارت) من خلال قراءة متأنية لتاريخ الجماعات اليهودية في أوربا الغربية.

في الجزء الثاني من هذا الفصل تحدث ليون عن أوضاع الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية، التي لجأ إليها الكثير من أبناء الجماعات اليهودية، إذ لم تصل إليها الرأسمالية بعد، حتى يتمكن هؤلاء من ممارسة مهنهم التقليدية (التجارة والربا). وتدريجيا أصبح أغلبية اليهود في العالم تعيش في أوربا الشرقية، وخاصة بولونيا التي تمتعت فيها الجماعات اليهودية بحماية الملوك، لأنهم كانوا مصدراً هاماً للخزانة الملكية. اشتغل اليهود في التجارة، والمصارف، والجمارك. كان النبلاء هم زبائن المرابين اليهود، لذلك كان النبلاء في حالة صدام دائم مع اليهود. ظل وضع الجماعات اليهودية في بولونيا جيداً حتى القرن السابع عشر، إذ بدأ المجتمع الإقطاعي يعاني من مشاكل ضخمة، عندئذ تدهور الوضع الاجتماعي لليهود، وأصبح اليهودي مجرد وكيل أعمال للسيد النبيل، أو جابي ضرائب، أو خمّار، بالتالي أصبح مكروهاً من الفلاحين، لأنه تحول إلى أداة رئيسية لاستغلالهم في يد النبلاء.

الفصل الخامس يحمل عنوان (تطور المسألة اليهودية في القرن التاسع عشر)، في البداية يوضح الكاتب بالإحصاءات أن أكثر من 86% من يهود أوربا الشرقية كانوا يعملون في التجارة، وأن نحو 11% حرفيين، وأقل من 2% مزارعين. لكن هذا التمايز الاجتماعي الذي ميز تاريخ الجماعات اليهودية في ظل الإقطاع تعرض لتغيرات جوهرية مع بداية ظهور الصناعة في أوربا الشرقية، ومع ظهور برجوازية محلية. فقد أدى تطور الرأسمالية في أوربا الشرقية إلى نتائج كارثية، إذ كان معدل هدم النظام الإقطاعي أكبر بكثير من قدرة الرأسمالية على توفير فرص عمل. وتفاقم وضع اليهود بشدة وكان الحل هو الهجرة، فسعت الجماهير اليهودية إلى ترك الأماكن التي انهار فيها الاقتصاد الإقطاعي إلى أماكن يمكن أن تجد فيها مصدر للرزق. بينما كان متوسط الهجرة في بداية القرن الثامن عشر 4.5 ألاف مهاجر سنوياً، وصل في بداية القرن العشرين إلى  أكثر من150 ألف مهاجر سنوياً.

تحت عنوان (الاتجاهات المتناقضة للمشكلة اليهودية في فترة صعود الرأسمالية) تحدث الفصل السادس من الكتاب عن مرحلة صعود الرأسمالية الصناعية في أوربا الغربية، التي نجحت في الاستيعاب الاقتصادي لجزء كبير من اليهود، بدخولهم صفوف البرجوازية الأوروبية، واندمج هؤلاء في مجتمعاتهم ثقافياً واجتماعياً، بل تحول عدد كبير منهم إلى المسيحية، وإن لم تختف اليهودية بشكل كامل من الغرب. ثم أوضح المؤلف أن ظهور المسألة اليهودية في أوربا الغربية لاحقاً في القرن التاسع عشر يرجع إلى التخلف الاقتصادي لأوربا الشرقية، ذلك أن دخول الرأسمالية إليها أدى إلى إفقار الكثير من جماهير الفلاحين والحرفيين، ودمر الوظائف التقليدية لغالبية اليهود، وهذا ما دفعهم إلى الهجرة إلى أوربا الغربية وأمريكا. وهكذا انتقل عدد كبير من يهود أوربا الشرقية إلى أوربا الغربية. كما حدث تمركز لليهود بأعداد كبيرة في المدن، وترافق ذلك مع معدل مرتفع للمواليد بين اليهود، مما أدى إلى إثارة النعرات القومية ومعاداة اليهود.

تناول ليون في الفصل السابع (اضمحلال الرأسمالية والمأساة اليهودية في القرن العشرين)، وكيف أنتجت الرأسمالية المسألة اليهودية. ذلك أن الرأسمالية – التي دخلت مرحلة الأزمة – فشلت في دمج اليهود في المجتمع الرأسمالي. فقد اختفى التاجر اليهودي لعصر (ما قبل الرأسمالية)، دون أن يتمكن ابنه من إيجاد مكان في الإنتاج الحديث، وتحول ذلك اليهودي إلى عنصر فائض لا فائدة منه ويجب التخلص منه.

في هذا الفصل يتحدث ليون عن ظهور الصهيونية التي برزت ردة فعل من البرجوازية اليهودية الصغيرة، التي شكلت أغلبية اليهود في أوربا، على الاضطهاد الذي عانت منه وجعلها تُجْبَر على الانتقال من بلد إلى بلد. ذلك أن إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي عام 1863 جعل وضع الجماهير اليهودية في المدن الصغرى لا يحتمل اقتصادياً، مما دفعها للهجرة إلى أوربا الغربية. وفي الغرب أخذت الفئات الوسطى الأوربية المسحوقة توجه غضبها ضد اليهود، مما دفع بالأفكار الصهيونية للانتشار بين أوساط اليهود. فبعد مذابح 1882 في روسيا، ظهر كتاب ليوبنسكر (التحرر الذاتي)، وبعد قضية دريفوس(3) ظهر كتاب (الدولة اليهودية) لتيودور هرتزل 1896. وفي عام 1897 عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل.

ظهور الصهيونية

ناقش إبراهام ليون بعض ادعاءات الصهيونية، وأوضح عدم صحتها استناداً إلى الواقع التاريخي، فإذا كانت الصهيونية ترى في سقوط القدس سبباً (للتشتت اليهودي)، وبالتالي مصدراً لجميع آلام اليهود في الماضي والحاضر، وترى أن عدم قدرة اليهود على الاندماج في مجتمعاتهم ترجع إلى الشعور القومي بضرورة العودة إلى (وطنهم القديم)، فإن ليون طرح السؤال التالي على الصهاينة: لماذا لم يحاول اليهود العودة إلى هذا الوطن المزعوم طوال تلك القرون الطويلة؟ لكن الصهيونية لا تستطيع الإجابة عن هذا السؤال، وتتستر بالدين مدعية أنه كان على اليهود انتظار قدوم المسيح. وهنا يطرح ليون السؤال التالي: لماذا اعتقد اليهود بضرورة الانتظار؟ ثم يجيب ليون بأن الدين يمكن أن يُوظف كانعكاس أيديولوجي لمصالح اجتماعية، إذ كان انتشار اليهود في أرجاء العالم لأسباب اقتصادية، فكان ضرورياً وجود تبرير ديني لهذا الانتشار، هذا التبرير هو انتظار المسيح، بينما (حلم العودة إلى صهيون) لم يكن شيئاً، كان مجرد حلم لا يتطابق مع أي مصلحة حقيقية لليهود طوال قرون طويلة، وبالتالي لم يحاول اليهود العودة.

الصهيونية وليدة الرأسمالية في عصر الإمبريالية، من هنا استنتج ليون أن حل المسألة اليهودية يصبح مستحيلاً دون القضاء على الرأسمالية التي أنتجتها. ففي عصر أزمة الرأسمالية يوجد فائض منتجات وفائض عمالة، بينما العالم بأكمله قد استُعمر ودخله التصنيع والنظام الرأسمالي، وأينما حاول اليهود حل المسألة اليهودية بإقامة وطن قومي لهم وحدهم سيصدمون بالقومية المحلية وبالإمبريالية. وبناءً على هذا التحليل يمكننا فهم ما حدث في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، حيث احتاج الصهاينة إلى دعم الإمبريالية الإنجليزية للتغلب على المقاومة العربية، واحتاجوا إلى دعم الإمبريالية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية لمقاومة النهوض القومي العربي. إن توافق المصالح بين الإمبريالية البريطانية والصهيونية هو الذي أدى إلى إنشاء دولة عبرية في فلسطين عام ،1948 وإن توافق المصالح بين الإمبريالية الأمريكية والصهيونية في المرحلة الحالية هو الذي يضمن استمرار الدولة الصهيونية.

في الفصل الثامن، الذي يحمل عنوان (سبل حل المسألة اليهودية)، استبعد ليون احتمال نجاح تحقق الحلم الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. أرجع ليون هذا إلى أحد التناقضات التي يتضمنها المشروع الصهيوني، ذلك أن إقامة وطن لليهود في فلسطين رساميل ضخمة، وبالتالي تفرض الصهيونية على الجماهير اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم التبرع لصالح هذا المشروع، لكن مادام وضع الجماعات اليهودية في أنحاء العالم محتملاً، فلن يكون هناك أي ضرورة تجبر اليهود على التبرع ومساندة الصهيونية، وإذا زاد تعرض الجماهير اليهودية للاضطهاد، عندئذ تقل قدرتهم الاقتصادية على دعم المشروع الصهيوني. ويعد هذا أحد أهم تناقضات المشروع الصهيوني، من وجهة نظر ليون.

لكن الحلم الصهيوني بإقامة دولة تحقق، عام 1948 إذ استطاعت الصهيونية تجاوز التناقض السابق عن طريق الدعم الإمبريالي، ومازالت إسرائيل تحوز على هذا الدعم نتيجة للدور الوظيفي لإسرائيل في عصر الإمبريالية الأمريكية. وهذا أحد أهم عناصر ضعف المشروع الصهيوني، فانتهاء دور إسرائيل الوظيفي تختفي إسرائيل من على الخريطة.

وفي نهاية الكتاب يقول ليون إن آلام اليهود لن تزول أو يتحسن وضعهم بتحقق الحلم الصهيوني، ذلك أن وضع اليهود لا يتعلق بوجود دولة يهودية في فلسطين أو عدم وجودها، بل يتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العام. لن تزول مشكلة كراهية اليهود إلا في ظل اقتصاد اشتراكي على مستوى أممي، وهذا لن يتحقق إلا بثورة عمالية أممية.

تكمن أهمية هذا الكتاب، في أنه مازال يقدم لنا في القرن الحادي والعشرين الأساس العلمي لفهم الصهيونية، مما قد يساعد المناضلين ضد إسرائيل والصهيونية في معرفة حقيقة الصهيونية وفهمها، وبالتالي استنتاج أفضل الطرق لمواجهتها.

ترجم هذا الكتاب عام 1969 تحت عنوان (المفهوم المادي للمسألة اليهودية) وصدر عن دار الطليعة في بيروت. ولكن للأسف كانت الترجمة غير دقيقة وغير صحيحة في كثير من الأحيان، مما شوه الكثير من أفكار المؤلف. كما أن هذه الترجمة لم تلتزم الأمانة في نقل الهوامش، إذ لم ترد أغلبها في النسخة العربية رغم أهمية تلك الهوامش، كما أن المترجم سمح لنفسه بدمج فقرات معاً وتقطيع فقرات أخرى، كما تجاهل علامات التنصيص والكثير من الإشارات المرجعية الموجودة في النسخة الإنجليزية. لذا نأمل أن يترجم هذا الكتاب الهام مرة ثانية، أو أن تراجع الترجمة مراجعة دقيقة، مما يعود على القارئ والمثقف والمناضل العربي بالفائدة في معرفة أبعاد المسألة اليهودية وفهمها، وإدراك مدى ارتباط تلك المسألة بالصهيونية.

 

1- النسخة الإنجليزية من الكتاب على الموقع التالي: http://www.marxists.org/subject/

2 – لمزيد من التفصيل حول قصة حياة ونضال أبراهام ليون، انظر المقال الذي كتبه إرنست ماندل عام 1947 والمنشور باللغة الإنجليزية على الرابط التالي: http://www.marxists.org/archive/aleon.htm

3 قضية دريفوس هي قضية ضابط فرنسي يهودي اتهم بالتجسس لصالح ألمانيا وتمت محاكمته بشكل يجافي العدل، وكان هناك إصرار على إثبات التهمة لكونه يهودياً. هذه القضية أحدثت تحولاً فكرياً عميقاً لدى الصحفي تيودور هرتزل الذي كان يقوم بتغطية القضية صحفياً، فقد تحول من شخص مؤمن بفكرة ضرورة اندماج اليهود في مجتمعاتهم، إلى ضرورة إقامة (دولة اليهود).

 

عن «الحوار المتمدن»

العدد 1107 - 22/5/2024