مفاضلة القبول الجامعي تخرج الطالب بالضربة القاضية!

الهدف النهائي للعملية التربوية هو بناء إنسان مثقف واع مدرك لقضايا الإنسانية جمعاء، يتميز تفكيره باتباع المنهج العلمي المنطقي، القادر على المساهمة في حل مشاكل الوطن والإنسانية، يقبل الآخر، قادر على الحوار الهادئ البعيد عن كل أنواع العنف والسفسطائية، يتمثل منظومة القيم النبيلة التي اتفق عليها المجتمع معياراً للإنسان المواطن المثقف السوي، قادر على تحديد ميوله ورغباته وإمكاناته، أي قادر على تقدير ذاته. وبناءً على ذلك يحمل في فكره صورة واقعية، لما يحلم أن يكون عليه في المستقبل والدور الذي يجب أن يقوم به في بناء الوطن.. إلخ.

إن هذه الصورة لمخرجات العملية التربوية ليست مستحيلة وليست من عالم الخيال، بل المخرج الحالي هو الغريب، وهو الذي يجب أن يحير أعلام التربية. أليس أعجوبة أن تعدّ طالباً مقبولاً في أهم الاختصاصات الجامعية العلمية أو الأدبية، ويستطيع أمّي جاهل أن يأخذه إلى مواقع التطرف بكل أنواعه، وبهذا الضعف أمام منظومة الفساد، والعجز عن إيجاد الحلول الإبداعية لمشاكل الوطن والمواطن؟ إننا الآن بحاجة أكثر من أي وقت آخر لإعطاء التربية الأهمية التي تستحقها عن طريق البرامج الاستراتيجية التي توصل إلى الهدف الرئيسي للتربية، وإزالة كل المعوقات، وخصوصاً تلك التي تراكم عليها العفن، حتى تتمكن تلك المخرجات من أخذ دورها الحقيقي في مواجهة هذه الأزمة التي يمر بها الوطن، وإعدادها الإعداد الجيد لتحصين الوطن من أي أزمة قد تتحداه في المستقبل البعيد أو القريب. فليس من المواطنة في شيء أن نقف متفرجين على جنودنا وهم يواجهون إرهاباً يعادل حرباً كونية، فالمشكلة ليست بندقية ومدفعاً رشاشاً ومجموعة من الغرباء المرتزقة، بقدر ما هي مع فكر عفن متطرف غبي استغلته قوى استعمارية شيطانية اكتشفت ما في مجتمعنا من ثغرات في الفكر والثقافة والتربية والتعليم. وبإلقاء نظرة سريعة سنجد أن العدد الأكبر ممن جنّدوا وحملوا السلاح هم من الجيل الذي يفترض أنه داخل المؤسسات التربوية والتعليمة، فإذا كان من داخل المؤسسة التربوية أو التعليمية، فنحن مقصرون في تحصينه وإعداد فكره الإعداد السليم. وإذا كان من خارج المؤسستين، فنحن مذنبون في حقه، وذلك بتركه خارج المؤسستين. ونحن نعترف بأن المؤامرة كبيرة ومستمرة ما دامت القوى الاستعمارية والصهيونية العالمية موجودة، فليس بالجنرالات وحدهم تكسب هذه الحرب، إنما بدعمهم بجيل يتمثل منظومة قيم التربية التي ذكرناها سابقاً، وذلك برسم استراتيجية واضحة المعالم تحقق أهداف التربية لا مكان فيها للمعوقات.

إن نظام التقدم إلى الجامعات والمعاهد عن طريق المفاضلة بشكلها الحالي، هو معوق رئيسي أمام تحقيق التربية لأهدافها، وهذا المعوق برأينا هو الذي يجهض أي تطوير في التربية ويظهره كأنه عديم الجدوى، علماً أننا ندرك أنه ليس المعوق الوحيد، ونعترف بأن عدد المعوقات كبير جداً، لكن هذا المعوق من أبرزها.

إن هذا النظام المعمول به يعتمد على رائز واحد هو درجة امتحان الثانوية، وهذا النظام الامتحاني يحتاج أصلاً إلى إعادة تأهيل بكامله. وكنت قد تعرضت لهذا النظام قي مقالة سابقة في جريدة (النور) بعنوان (نظرة في نظام امتحانات الثانوية العامة) في العدد 500 بتاريخ 14/9/،2011 واضعاً بعض المقترحات التي قد تساهم في تطوير هذا النظام. إن اعتماد نظام المفاضلة الحالي في الانتساب إلى الكليات والمعاهد ما بعد التعليم الثانوي، يجعل المعلم والأهل والطالب محاصرين تماماً. فالأهل والطالب ينحصر اهتمامهم في نتيجة امتحان الشهادة الثانوية دون أي اهتمام بميول الطالب واستعداداته النفسية وإمكاناته الجسدية أو العلمية، أو إعطاء أية قيمة للتراكم المعرفي خلال السنوات التي تسبق امتحان الشهادة الثانوية، ولا يعار أي اهتمام لتمثل القيم التي تطرحها التربية هدفاً نهائياً لها.. فالطالب يدرك تماماً أن ما سيكون عليه في المستقبل مرتبطاً بما سيناله من درجات في امتحان الشهادة الثانوية، بصرف النظر عن أي شيء آخر. ولذلك فهو يلجأ إلى الغش الامتحاني، والمدرس الخصوصي ويعتمد على الذاكرة القريبة واستخدام الملخصات.. إلخ. وهي جميعاً معوقات أمام تحقيق التربية لأهدافها.

أما المعلم (المؤهل أو غير المؤهل) فهو أيضاً يعاني المشكلة نفسها، لأنه لن يسأل عن ماهية المخرج التربوي وفقاً لمعايير التربية وأهدافها، بل يسأل عن مجموع الدرجات التي نالها الطالب في المادة التي يقوم بتدريسها، فيلجأ إلى ملء الوعاء الزمني للمادة بالمعلومات التي يمكن أن يسال عنها الطالب في امتحان الثانوية العامة، دون الاهتمام بأية أهداف قيمية يحويها المنهاج أو معلومات دقيقة يعتقد بأنها لن تأتي في امتحان نهاية العام.. فغالباً ما يقوم بالتلخيص ووضع نماذج متوقعة ويلجأ إلى طرائق بعيدة عن العلمية، ولكنها أحياناً تؤدي إلى نتائج.. ويدرب الطلاب عليها (سلوك إجرائي)، ويعوّد طلبته على الذاكرة القريبة، أي ينحصر تفكير المعلم في كيفية جعل الطالب يحصل على درجة أعلى في نهاية العام، متجاهلاً المعايير والأهداف التي نتوقعها من المخرج التربوي. مما كرّس ثقافة اجتماعية خاطئة في الحكم على المعلم الجيد، (فمعيار جودة المعلم هو ما يأتي في نهاية العام من توقعاته). وفهم خاطئ عما نريده من المخرج التربوي وأعطى مبرراً للعنف من قبل المعلم. وما دامت المفاضلة على هذا النحو فلا يمكن تغيير هذا الواقع، لأن نظام القبول الجامعي يعتمد على هذا الرائز الوحيد، وهو امتحان نهاية العام. ولا أزعم هنا بأنني شخّصت الواقع تشخيصاً كاملاً، فهناك الكثير الذي يمكن إضافته.لذلك أقترح بعض الأفكار التي يمكن أن تؤخذ بالحسبان مع أفكار أخرى يمكن أن يطرحها متخصصون أو مهتمون أو أصحاب المصلحة الحقيقية (الطلاب):

– يقسم الطلاب بعد صدور نتائج الثانوية العامة إلى شرائح وفق نسب مئوية مداها كبير نسبياً.

– تضع كل كلية امتحان قبول مؤتمت خاص بها يراعي إمكانات الطالب وميوله ورغباته واهتماماته، وبإشراف متخصصين في التربية وعلم النفس والاجتماع والاختصاص العلمي المستهدف.

– يتقدم طلاب كل شريحة إلى امتحان الكلية التي يرغبون فيها، والتي يسمح لهم بالتقدم إليها، ثم تصدر النتائج فوراً وفق ترتيب متسلسل، وتؤخذ درجة الطالب في امتحان الثانوية بالحسبان، وتؤخذ أيضاً درجات المواد المرتبطة بذلك الاختصاص.

– تعلن الكلية عن عدد الطلاب الذين تستطيع استيعابهم لديها.

– يكون أمام الطالب خياران: (أريد، ليس الآن).

– بالنسبة للطالب المقبول بذلك الاختصاص، و(اختار أريد) أصبح مقبولاً ولا يحق له التقدم إلى أي كلية أخرى، وبالنسبة للطالب الذي وضع (ليس الآن) يحق له التقدم إلى كليات ذات شرائح أدنى. وإذا قبل في اختصاص آخر أو أكثر يختار بين إحدى الكليات المقبول فيها، ثم ترمم النتائج بناءً على الإزاحات التي حصلت بسبب الطلاب الذين اختاروا (ليس الآن)، وغالباً ما يكون هؤلاء الطلاب أقلية قليلة. ثم تصدر نتائج القبول النهائية، وبهذه الطريقة نكون قد راعينا ميول الطالب وإمكاناته وتحصيله العلمي، وأوقفنا جنون ارتفاع معدلات القبول الجامعي، وأعطينا فسحة للطالب والأهل والمؤسسة المدرسية بالاهتمام بالأهداف العامة للتربية، وساهمنا على نحو أو آخر في التصدي لهذا الوحش المرعب الذي اسمه (البكالوريا).. وأنا هنا أيضاً لا أزعم أبداً بأن هذه المقترحات كافية، ولكنني أعتقد أنها يمكن أن تؤسس لنظام قبول جامعي على الأقل، هو أفضل من النظام المعمول به.

العدد 1104 - 24/4/2024