نظرة في ذكريات المناضل الشيوعي عبد الجليل بحبوح

بحالة نفسية بالغة التأثر نظرت إلى صورة عبد الجليل على غلاف ذكرياته، ولم ترتوِ عيناي من النظر إليه عبر صورته، وأنا أتخيل العذابات التي لقيها في سجونه، ورغم ذلك كان دائماً مبتسماً بشوشاً متفائلاً.

التقيته آخر مرة منذ فترة بعيدة قبل سفري أمام مشفى الهلال الأحمر في دمشق وهو يحمل بيده الدواء الموصوف له ويده ترتجف، شّلت يد الجلادين!

عبد الجليل بحبوح المولود في النبك أواخر 1932 ينتمي إلى الجيل الثاني للحركة الشيوعية السورية، التي كان مؤسسوها الأوائل ناصر حدة ابن يبرود جارة النبك عاصمة القلمون.

اتصف جبل القلمون بالملكية الصغيرة للأرض المروية، واتساع مهنة رعي المواشي، وكثرة العاملين في النقل (قوافل الجمال ثم العربات فالسيارات)، وحرف البناء، إضافة إلى الهجرة المبكرة من الريف إلى مدينة دمشق، ومن ثم الهجرة للعمل في بلدان الخليج، وقد تميزت أمهات بلدات القلمون بانتشار التعليم بفضل البعثة الدانماركية الناشطة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما أن الدولة السورية لم تبخل في الإنفاق على مدارس القلمون.

في هذه الأجواء نشأ عبد الجليل بحبوح وتكوّن وعيه الاجتماعي. وبعد إتمام المرحلتين الابتدائية والمتوسطة انتسب إلى دار المعلمين بدمشق ونال أهلية التعليم الابتدائي. وشاءت الأقدار عندما عُيّن معلماً في الزبداني عام 1953 أن يلتقي بظافر الحارس ابن حمص، الذي كانت له إسهامات في وضع اللبنات الأولى لبناء الحزب الشيوعي في النبك. وقد أخذ ظافر بيد عبد الجليل إلى الحزب الشيوعي. وسرعان ما أصبح عبد الجليل بحبوح ناشطاً في صفوف الحزب الشيوعي في عدد من المناطق. سجن عبد الجليل مرتين وتعرض للتعذيب الشديد مما أثر على صحته، وعاش حياة قاسية وهو صامد صمود القلة ممن  يغشون الوغى ويعفُّون عند المغنم.

بعد أن قارب عبد الجليل بحبوح الثمانين من عمره، وقبل أن تدركه المنية، كتب ذكرياته راجياً أن (يغفر له أصدقاؤه والمؤرخون عدم مراعاة قواعد كتاب الذكريات). فهو كما ذكر، ليس مؤرخاً ولا يملك المؤهلات للكتابة التاريخية، ولهذا عمد إلى (أسلوب الجمع بين الواقعية الأدبية والتحليل السياسي). وهو لا يجزم إذا كانت الأحداث التي أشار إليها سيقت في مجراها الطبيعي تماماً، ولكنه يشعر شعوراً صادقاً (أنها طبق الأطبق). ويعترف في مقدمة ذكرياته بأنه دوَّن (مازال عالقاً في الذهن من وقائع الماضي (خلال) رحلة طويلة اجتزتها، فيها الكثير من البساطة والواقعية (وأنا) أبحث بتوتر وقلق في ثنايا الذاكرة عن تفاصيل الأحداث الماضية وعلاقتي بها).

أبرز ما في ذكريات عبد الجليل بحبوح سنوات السجن وذيولها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاعتقال والسجن والتعذيب وإطلاق السراح جرى، بدون العودة إلى القضاء، وفقاً لمشيئة أجهزة الأمن، التي لا تخضع لرقيب أو حسيب.

اعتقل عبد الجليل، أيام الوحدة مع مصر، في 5/3/،1959 وأطلق سراحه في 28/1/1962. ويسرد في الذكريات أن الحزب الشيوعي لم يكن ضد الوحدة، ولكنه أرادها أن تقوم على أسس ديمقراطية، ومع ذلك جرت حملة اعتقالات شاملة لأعضاء الحزب ومناصريه. وتنقل الذكريات صوراً من التعذيب في أقبية الأمن وسجن المزة، والحياة التي عاشها السجناء الشيوعيون مواجهين بشجاعة صلف سجانيهم وبربريتهم. وننقل جملتين مما كتبه عبد الجليل: (كنت خلال التعذيب والآلام والأوجاع (تنتابني) أضغط على نفسي كي لا أصيح عالياً، حتى لا يشعروا أني  ضعيف ويمكن أن أتخاذل).. (حفر الكرباج في أجسامنا أثلاماً عميقة، وفي أذهاننا آلاماً لا تبرح الذاكرة).

ولعل أحد أسباب صمود عبد الجليل صمود أمه (أم علي) ودورها الشجاع في مساعدة ابنها، ويذكر عبد الجليل أن أمه قرأت رواية الأم لمكسيم غوركي ويبدو أنها تمثلت بها.

أثناء وجود عبد الجليل في سجن المزة أمرت (المباحث السلطانية) وزارة التربية بتسريحه من التعليم. وبقي هذا التسريح ساري المفعول على الرغم من تغير (النظام السلطاني) بنظام آخر شبيه به. وتجنباً من الاعتقال مرة ثانية أوفد الحزب الشيوعي عبد الجليل في أيار 1963 للدراسة الحزبية في بلغاريا لمدة ثلاث سنوات. جاء في الذكريات: (كانت هذه الفترة من حياتي أجمل ما قضيت من سنوات بعد ظروف شاقة عشتها في طفولتي (وبعدها) عذاب السجون والزنزانات والتشرد والإذلال).

وقد لعبت المصادفة دوراً في لقائه بزينب نبّوه الموفدة من الحزب الشيوعي اللبناني للدراسة الحزبية في بلغاريا. وتم (النصيب).. اللافت للانتباه أن حصيلة الزواج أثمرت ابناً لهما سمَّياه فياض، تيمناً بذكرى فرج الله الحلو، الذي قضى نحبه تحت التعذيب في أقبية المباحث السلطانية بدمشق.

في كانون الأول 1966 عاد عبد الجليل إلى الوطن. ولم يكن من السهل للمسرّح من التعليم بأوامر مخابراتية، الحصول على عمل. ولأسباب دوّنتها الذكريات (تكرّم) الجناح اليساري، الذي سرعان ما صُفّي من الحكم، بتعيين عبد الجليل في 29 ـ 3ـ 1967 (عاملاً مياوماً) في وكالة (سانا) للأنباء. زميل عبد الجليل في العمل ورفيقه في الحزب الشيوعي أحمد الزعبي اعتقل في 29 أيار 1969 ومات تحت التعذيب في أقبية (المخابرات السلطانية) لأنه، كما جاء في الذكريات، أعطى عدداً من صحيفة الحزب الشيوعي (نضال الشعب) لقريبه في الجيش. وفي الأول من حزيران اعتقل عبد الجليل وأمضى في أقبية المخابرات 37 يوماً أعقبها شهر ونصف سجن في غرفة منفردة في سجن المزة.

تصف الذكريات ما لقيه صاحبها في فترتّيْ التحقيق والسجن. ومن مقارنة التعذيب بين عامي 1959 و1970 يبدو واضحاً (الخبرة)، التي اكتسبتها (المباحث أو المخابرات السلطانية) خلال عقد من الزمن.

ولما لم يكن بإمكان (نزيل السجن) التحرك بسبب ما أصابه من ضرب وتعذيب، فقد نقلوه إلى منزله على (نفقتهم). كتب عبد الجليل: (نقلوني بالسيارة العسكرية إلى بيتي، حيث حملني أربعة من الجلادين ورموني أمام الباب واختفوا بسرعة بعد أن طرقوا الباب. فتح أهلي الباب ويا لهول ما رأوا أمامهم. كتلة لحمية مكومة على بعضها لا تستطيع الحراك..).

تروي الذكريات كيف جرى سراً نقل عبد الجليل من دمشق إلى بيروت ومنها إلى موسكو لعلاج إنسان شارف على الموت. وكان لسنوات السجن وخاصة التعذيب الذي لقيه عام 1970 أثر في تدهور صحة عبد الجليل وملازمة الأمراض له. وقد قال له الأطباء السوفييت: لو لم تكن بنيتك قوية لمتَّ أثناء التعذيب.

لن نتعرض هنا إلى الجوانب الأخرى من حياة عبد الجليل وتجربته في الحزب الشيوعي مكتفين، كما رأينا، بإلقاء الضوء على معاناته في أقبية التعذيب والسجون. فقضية الملاحقات الأمنية والسجون كانت، ولا تزال، تشغل جانباً هاماً من الحياة في عالمنا العربي. ولا يزال (النظام السلطاني) العربي يرخي بظلاله القاتمة على مجتمعاتنا، وهو يقف حجر عثرة أمام التطور والانتقال إلى مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية.

ومما يثير الأسى أن يظل مجتمعنا ذو الماضي التاريخي العريق والمجيد، وذو الثقافة والحضارة الإنسانيتين، أن يظل هذا المجتمع ساكناً راكداً قروناً عدة بعد أن بلغت الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري الأوج، ثم شهدت بعد القرن الثالث عشر الميلادي قروناً من السكون والركود وسادها الاستبداد السلطاني لدول الإقطاع العسكري السلجوقي والمملوكي والعثماني، التي خنقت إرهاصات التطور والتقدم. وعلى الرغم من التغيرات الجارية لا يزال (النظام السلطاني) العربي وريثاً للأنظمة المملوكية والعثمانية باسطاً جناحيه، حاجباً نور التقدم والرقي الحضاري.

وقد أسهم هذا (النظام العربي) واستبداده في تهيئة الأرضية الخصبة للإسلام السياسي، دافعاً جناحه (الجهادي) المتزمت والمتحجر إلى استلهام الموروث الظلامي ضارباً عرض الحائط بكل ما هو خيّر ومشرق في حضارتنا العربية الإسلامية في أيام عزها، عندما رفعت راية العقلانية في أرجاء العالم.

فإلى متى سيبقى هذا النظام السلطاني متحكماً بمصائر البلاد والعباد؟

وإلى متى ستبقى القوى الظلامية تسد طريق التقدم أمام حضارة عربية إسلامية جديدة ومشرقة؟

العدد 1105 - 01/5/2024