كُنْ جدّياً أكثر..!

هناك من يخلط الهزل بالجد، فينتج عجيناً لا يصلح طعاماً للدجاج والعصافير .. وهناك من يكون كلامه جدّياً – كما يتصور – إذا بهَّره بالسخرية. وهناك من يدَّعي بفخر أنه هزليّ ناجح لكنه لا يميّز بين السخرية النقدية والنكتة البذيئة.

إنّ كلمة (سَخر) تعبّر، دون استخدام أية حُقْنة ذكاء، عن أسلوب يثير الضحك والسخرية والاستهزاء. وتستخدم هذه المفردة أيضاً في تبيان المفارقة بين متضادتين أو كلمتين تعطيان معنى عكسياً، كأن تقول للبخيل: ما أكرمك! خيرك يفيض كنهر النيل! لماذا لا توفر قرشك الأبيض ليومك الأسود؟ أو عندما توجه سؤالاً لصديقك الذي تظهر على وجهه ملامح اليأس: لماذا يفيض الفرح من وردتي وجنتيك يا صديقي؟

السخرية دخلت سوق الأدب ليس سلعة لا قيمة لها، بل فنّ أدبيّ يحتاج إلى مبدع يتحلّى بالمهارة والحذَق والذكاء واللغة السردية المطعّمة بالشعرية والمفارقة والتناقض والمغايرة.

الساخر الحقيقي هو الأكثر جدية الذي يعبر عن واقع الناس ومعيشتهم، ويدافع عن حقوقهم بشكل يثير التساؤل، والقول إن ارتفاع الأسعار يؤدي إلى بحبوحة العيش .. وأن الجفاف يزيد من إنتاج الأرض! وأن هذه القدرات الموظفة في الأدب الساخر، تؤدي إلى الضحك التهكّمي والسخرية على ما يجري، وإلى نتائج يمكن وصفها (بالسخرية الجادة التي يعبر بها الأديب الساخر عمَّن رُبطت ألسنتهم ولم يستطيعوا المطالبة بحقوقهم!).

السخرية الجدّية هي طبعاً (سخرية إيجابية)، عكس (السخرية السلبية). ويرى أدونيس (أن السخرية حاجة نفسية تنطلق من إرادة الإنسان، يبغي من  خلالها فهماً وإدراكاً لأشياء غير مفهومة).

تقول السخرية شيئاً في الظاهر وما يعاكسه في الباطن .. أي هي عملية تورية تحمل أكثر من دلالة ومعنى وتفسير! أو أن هناك شيئاً مشتركاً بين طرفي معادلة السخرية (التناقض بين مضمون الظاهرة (أو ماهيتها)، وشكلها الممارس في الحياة العملية).

عرفت السخرية أساليب عدة، تتناوب بين الفكاهة والضحك وذلك لمجرد التسلية. وسمي هذا الأسلوب (الرد بالمثل). وفي هذه الحالة يكون الرد أكثر سخرية وأشد لذعاً. أما اللعب بالألفاظ والمعاني فله أنواع عدة، منها (الكناية والتورية والتعريض والقلب..). وأسلوب آخر يعكس الباطن ويخالف الظاهر. وهو الهزل الذي يراد به الجد. فالمتكلم مثلاً يمدح إنساناً بقصد ذمّه أو يحدث العكس تماماً. وأحياناً يمكن للكاتب الساخر أن يضخّم الصورة ويعقّدها ويعطيها أكثر من بُعد، رغم بساطتها وسهولة تفسيرها ومعرفة دلالتها، وهو بهذا التضخيم يثير الجدل حولها في تقريبها إلى ذهن المتلقي البسيط، أو إذا كان المتلقي (فهلوياً) فيعطيها أبعاداً قومية ودولية بشكل ربما يثير الضحك والسخرية من هذا الكلام!

إن أكثر ما يثير السخرية، حينما يحكي الكاتب الساخر عن عيوب جسمه (السُّمرة الشديدة، العينان البقريتان، القصر، الطول غير العادي، الرأس المستطيل… وغيرها)، أو يصف عيوب أهله وأقاربه التي كثيراً ما تؤدي إلى خصومات او حالات قتل ووعد بأخذ الثأر!

وحول ذلك يقول ابن الرومي:

من كان يبكي الشباب من جَزعٍ

فلستُ أبكي عليه من جزع

لأن وجهي بقبح صورته

ما زال لي كالمشيب والصلع

العدد 1104 - 24/4/2024