تجار عملة ربحوا ومواطنون خسروا

لماذا لاتشتري شركات ومكاتب الصرافة القطع الأجنبي من المركزي؟ 

لن تسعف الفطنة، أو الذكاء التقليدي الذي يتمتع به مسؤولو المصرف  المركزي ومجلس النقد والتسليف، في الإجابة المقنعة، والمنطقية، رداً على سؤال: لماذا لم تشتر شركات ومكاتب الصرافة دولاراً واحداً، في جلستي التدخل اللتين عقدهما المركزي مؤخراً ( الأولى يوم الاثنين 21 نيسان، والثانية يوم الخميس 24 نيسان 2014)؟

فكل التبريرات التي اعتاد المذكورون على سوقها لإيضاح ما يحدث في سوق الصرف، لا تعبر عن الحقيقة، أو واقع هذا السوق الذي يتسم بناريته الخارقة، وتقلباته الشديدة، وغياب المعايير التنظيمية، وتركه بلا حسيب أو رقيب، وخضوعه كما يبدو لقلة من المضاربين والمتحكمين.

لماذا لا يجرؤ أحد على شراء القطع الأجنبي من المصرف المركزي؟ أليس هذا السؤال العادي والبسيط، الذي لابد من طرحه؟ ثمة إجابتان عن هذا السؤال المرير، الأولى لا تخرج عن إطار قاعدة شعبية تختزل المخيال المهم الذي يتمتع به السوريون ومفادها(ابتعد عن الشر وغنيلوا). إذ إن كل الإجراءات التي اتخذها المركزي والأجهزة المختصة حيال الشركات ومكاتب الصرافة خلال الفترة الماضية، تدفع القائمين على هذه المؤسسات بالابتعاد عن الشراء من المركزي، مادامت المحاسبة والمساءلة واقعة فعلياً آجلاً أم عاجلاً. سوق متعطشة للقطع الأجنبي، ومواطنون يتحدثون بأسعار الصرف صبح مساء، وقفزات متتالية في هذه الأسعار، وانخفاض واضح في قيمة الليرة أمام العملات الأخرى، وغيرها من الأسباب التي تدفع بقوة لشراء القطع الأجنبي،  ولا أحد يقترب من المركزي لشراء بضاعة معروضة، تدر دخلاً بالملايين على المكاتب وشركات الصرافة والمتعاملين بالقطع الأجنبي، ما يضع (العقل بالكف) كما يقال، لاسيما أن شهوة الاكتناز وجمع المال، والدخول في نادي الأغنياء، موجودة بقوة لدى معظم السوريين، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف.

السوق السوداء النشطة، تعزز فرضية الحاجة الماسة للقطع الأجنبي، وعدم وضوح موقف الحكومة من عملية تمويل المستوردات، يزيد طين الأزمة بلة، إلا أن إجراءات المركزي لجهة شراء المواطنين القطع، والتي أتت لضبط الفوضى السائدة في السوق، ولجم التصاعد اليومي في سعر الصرف، تعطي مفعولاً عكسياً بامتياز. إذ إن المركزي أراد تقييد عمليات بيع وشراء القطع الأجنبي، لتهدئة الانفلات الكبير في سوق الصرف، لكن لا يمكن لبرميل ماء أن يطفئ غابة مشتعلة، فهناك دائماً نوافذ خلفية يمكن من خلالها (تدبير الرأس) والحصول على القطع. ولا ننفي هنا أن المئة دولار تمكّن شخصاً ما من كسب ألفي ليرة سورية يومياً من خلال بيعها وشرائها، ولن يترك هذا الشخص هذه المهنة المستجدة، بعد أن كانت مقتصرة على قلة من أسياد سوق الصرف. ولن تنفع محاولات التلويح بالعصا، واستخدامها أيضاً، على المدى البعيد من أن تكون الحل الأمثل، فأسعار الصرف ستبقى شغلاً شاغلاً لكل السوريين، مادامت فوضى السوق في الأزمة الراهنة هي سيدة الموقف.

الإجابة الثانية التي تجعل المركزي يعرض بضاعته دون أن يشتري أحد، رغم الحاجة في السوق، تتعلق بمدى جدية المصرف في البيع، إذ لايكفي أن يعلن المصرف عن رغبته بالتدخل وعرض شرائح قطع أجنبي تدخلية في السوق، هذه خطوة أولى وإجراء لابد منه، لتخفيف حدة الصعود في أسعار الصرف، وتقليل حجم الضغوط على الليرة. لكن ثمة خطوة ثانية لابد منها، هي رغبة المركزي الفعلية بالبيع، وليس الاكتفاء بالعرض فقط. بمعنى آخر إن الأسعار التي يفرضها المركزي للبيع والشراء، لا تشجع العاملين في السوق على الإقبال على هذه البضاعة، بينما في السوق السوداء ثمة ما هو موجود وبأسعار أعلى لكنها عمليات لا تفرض مساءلة من المركزي.

حتى الآن، أظهرت شركات ومكاتب الصرافة، أنها الأقدر على التحكم بأسعار الصرف، وبيدها أدوات كثيرة، قادرة على إدارة هذا الملف الخطير، ما يشير إلى وجود الأيدي الخفية التي تتحكم في سوق الصرف، وليس بعض المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي يرى فيها حاكم المركزي سبباً لارتفاع أسعار الصرف. إنها المبررات التي تثير الابتسامة، فهل شركات معروفة، ورجال أعمال يدركون تماماً ما معنى القطع الأجنبي، ينجرون خلف سعر يضعه موقع إلكتروني أو صفحة تواصل اجتماعي؟ أليس ذلك يمثل الكوميديا السوداء بحد ذاتها؟

في الأسابيع القليلة المنصرمة، لا يوجد سبب يدعو لارتفاع سعر الصرف، من تلك الأسباب التي اعتادت الحكومة على وضعها، وهذا دليل على أن الأيدي الخفية، وتجار السوق السوداء هم من يتحكمون بالسعر. والقصة باختصار، أنه بعد بيع هؤلاء الدولار بما يتجاوز 172 ليرة، عاد السعر وانخفض بما يعادل 10 ليرات، وهو الربح الحقيقي الذي يحصل عليه المتعاملون بالدولار من كبار تجار هذه العملة، على حساب المواطن، هذه هي المسألة ببساطة.

العدد 1105 - 01/5/2024