على أبواب المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد

العلمانية.. والانتماء الوطني 

العلمانية مكسب إنساني وحضاري عام، أمكن الوصول إليه والأخذ به بعد تجارب مريرة من الحروب الأهلية والطائفية والاضطهاد باسم الأديان والمذاهب في مختلف أنحاء المعمورة. ويعتمد الحزب الشيوعي السوري الموحد العلمانية، وينطلق فهمه لها من بعض الأسس:

1- فصل الدين عن الدولة والسياسة. ولا يحمل هذا الفصل أية إساءة للأديان، ولا ينقص من أهميتها، بل ينزه الدين عن ذرائعية السياسية وتقلباتها ومكائدها، ويحمي قيمه وأفكاره من التأثر بالمصالح الآنية التي تحدد توجهات السياسة، وهذا لا يتضمن أيضاً فصل الدين عن المجتمع أو الحد منه ومن دوره في حياة البشر، أو إضعاف مكانته في منظومة القيم الأخلاقية والمسلكية وحضورها في وجدان البشر وحياتهم، أو التضييق على حرية المعتقد والانتماء، بل ينظر إلى الدين أنه حالة إيمانية شخصية للإنسان يجب احترامها وضمان حقه في ممارسة طقوسها وشعائرها بحرية ودون المساس بحرية الآخرين. ولكن العلمانية تعارض أن تقوم دولة على أسس دينية، أو تسييس الدين أو استخدامه للوصول إلى السلطة، أو أن يكون خادماً لها. فلا تمارس الدولة أي سلطة دينية، ولا تمارس المؤسسات الدينية أي سلطة سياسية.

2- المساواة بين المواطنين في القانون وفي مختلف مجالات الحياة أياً كان انتماؤهم الديني أو السياسي أو العرقي أو الجنسي أو الفكري. فالعلمانية تنظيم اجتماعي يوحد مكونات المجتمع المتعدد الانتماءات، ويتجاوز أشكال الترابط والتضامن المغلقة القديمة إلى أشكال مدنية مفتوحة وحديثة سياسية واجتماعية وثقافية، على أرضية دستورية وقانونية، تكفل حقوق الجميع، وصيانة حرية الضمير والمعتقد، والعمل للصالح العام مبرراً لوجود الدولة، التي هي دولة كل المواطنين بصرف النظر عن قناعاتهم أو معتقداتهم الروحية أو جنسهم أو أصولهم. فالعلماني مواطن حر يقر لأخيه المواطن بحرية المعتقد الديني أو الفلسفي من دون أن يؤثر ذلك على مواطنيته وحقوقه وواجباته اتجاه وطنه. وتتضمن العلمانية فكرة الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفرق الدينية الموجودة في المجتمع بغض النظر عن كونها أقلية أو أكثرية، ولا تمنح ميزات لدين معين على آخر.

3- تأكيد مبدأ المواطنة والانتماء للوطن، وترك الانتماءات الأخرى، ومنها الانتماء الديني، لأصحابها الذين ينبغي أن يكونوا أحراراً في التعبير عنها وممارسة شعائرها ونشاطهم في مجال الفكر والثقافة في ظل غطاء قانوني. ويشكل مبدأ المواطنة أحد أهم الأسس السياسية للعلمانية، فهو يضمن المساواة التامة بين المواطنين المنحدرين من أديان وأثنيات أو مذاهب مختلفة، ويساهم في صيانة وحدة الدولة والمجتمع، وإحلال الوئام بين الناس الأحرار مختلفي المنابت في إطار العيش المشترك وضمان علاقات وطنية سليمة بين مكونات المجتمع.

4- فصل الدين عن التعليم، وذلك مراعاة للاختلاف بين طبيعتيهما. فالعلم نشاط عقلي يقوم على مبادئ الشك والتجربة ومقايسة الفكر بالواقع، أما الدين فهو ذو طبيعة إيمانية تسليمية لا مجال فيها للشك أو التجريب. وله مجالات تعليمه الخاص. أما التعليم العام فيجب أن يكون متحرراً من الأفكار المسبقة المسيطرة، وتمكين التلميذ وطالب العلم من الوصول إلى المعرفة المحايدة والحكم السليم على الأمور، والاجتهاد والإبداع من خلال الممارسة النقدية المستقلة، والمحاكمة العقلية المتحررة من سطوة السلطتين السياسية والدينية معاً.

وهكذا نرى أن العلمانية منهج علمي يضمن العمل وفق آلية ديمقراطية عقلانية للحوار الموضوعي في المجتمع، وتمكنه من تداول السلطة بطريقة سلمية توفر التطور والمناخ الصحي لخلق أجيال تنمو في ظل مبادئ الحرية والمساواة والقبول بالآخر، ورفض التعصب والجهل والعنصرية والاستبداد. فالعلمانية ضرورة وطنية وقومية ونهضوية لمجتمعنا المتعدد المكونات، الذي يواجه في هذه المرحلة الخطيرة تيارات التطرف والتعصب والإرهاب التي تستهدف وحدة كيانه.

لم يجد كثيرون من رجال النهضة العرب تعارضاً بين الدين والعلمانية. فيقول الإمام محمد عبدو (الأمة هي صاحبة الحق في السيطرة على الحاكم..). ويعتبر عبد الرحمن الكواكبي (الأمم الحية ما أخذت في الرقي إلا بعد أن عزلت شؤون الدين عن شؤون الحياة، وجعلت الدين أمراً وجدانياً محضاً لا علاقة له بشؤون الحياة الجارية على نواميس الطبيعة)، ويستنتج علي عبد الرازق : أن بإمكان المسلمين إقامة نظامهم السياسي على أساس أحدث نظريات العقل البشري وخبرة الأمم.

ورفع المناضلون من أجل التحرر من الاستعمار من مختلف انتماءات المجتمع شعار : الدين لله والوطن للجميع، الذي كان شعار الثورة السورية الكبرى. ولكن لم يتمكن الفكر العلمي من التجذر في المجتمع نتيجة تضييق السلطات هامش الحرية أمام هذا الفكر وتعبيراته السياسية والثقافية. وشوّه الخصوم صورة العلمانية في أذهان الناس في بلادنا. وغدا على العلمانيين مهمة العمل على نشر مفاهيم العلمانية وترسيخ قيمها السليمة في التشريع والإعلام والتعليم.. وتقديم العلمانية للجماهير بشكل يوضح أسسها ويصحح التشويه الذي عمل عليه التضليل الإعلامي الرجعي والفهم الساذج الذي قرن العلمانية بالإلحاد والتفريط بالقيم. وعلى المثقفين والأحزاب العلمانية تقديمها ضمن خطاب يوضح ضرورتها العصرية في ترسيخ الوحدة الوطنية وللمساهمة في قيام نهضة وطنية شاملة.

إن الدولة القائمة على التعددية السياسية ومبادئ الديمقراطية والمجتمع المدني تشكل أفضل الشروط والمناخات لتجذر العلمانية في أرض الواقع، وتعزز مساهمتها في ترسيخ الوحدة الوطنية وسلمها الاجتماعي.

العدد 1105 - 01/5/2024