إفلاس دعاة الحروب الإمبريالية

العودة إلى التراث الكلاسيكي للاشتراكية الديمقراطية (الثورية) ليست تزجية للوقت، أو هروباً من التصدي لمسؤوليات الواقع المعقد، وما يلقيه من تشوش وغموض على كاهل التيارات اليسارية، وليس ترفاً معرفياً أو تطهراً يلقي بمسؤولية الهزائم على الآخرين. ولكنها حاجة موضوعية لفهم تعقيدات المرحلة الراهنة من تطور الرأسمالية الجديدة، ومغامراتها الإمبريالية، وسياساتها المزدوجة ووعودها الحمقاء للشعوب بأن حروبها وعقوباتها وحصاراتها وتهديداتها وإملاءاتها المتواصلة واحتلالاتها المعلنة أو(الافتراضية) هي لمصلحة الشعوب ولتحقيق الاستقرار العالمي!

والأزمات المعقدة تستدعي بالضرورة استحضار ما كدسه البشر من خبرات، مثلما تستدعي حنكة وشجاعة في اتخاذ قرارات واضحة، واصطفافات جدية إلى جانب الفئات الواسعة المفقرة والمغبونة من عمال وفلاحين ومهمشين، ومواقف تضامنية ومساندة بفعالية لنضال قوى اليسار والتحرر الوطني في الجوار وفي العالم.

وقد احتفل هذا العام بمئوية الحرب العالمية الأولى عام 1914 واستعيدت مشاهد بسالة الجنود الذين قضوا فيها (دفاعاً عن أوطانهم)، واستفاض الخطباء بذكر الأهداف (النبيلة) لتلك الحرب، ولم يشر أي منهم إلى أهدافها الخفية اللصوصية العفنة.

فكيف نظر يساريو أوربا إلى تلك الحرب؟ ولماذا انقسموا بشأن الموقف منها قبيل وقوعها وعشية نشوبها وأثناء سنواتها القاسية الرهيبة؟ ولماذا وقع عدد من كبار منظري الأممية الثانية في مطب تبرير حروب حكومات بلدانهم من أجل تقاسم المستعمرات، وعدوها (دفاعاً عن الوطن).

في 24 ـ 25 تشرين الثاني عام 1912 انعقد في مدينة بال السويسرية مؤتمر اشتراكي عالمي فوق العادة، حضره ممثلون من الأحزاب الاشتراكية والنقابات، وبحث مسألة (النضال ضد خطر الحرب الإمبريالية العالمية الزاحف)، الذي تفاقم بعد اندلاع حرب البلقان  الأولى.

وقد وافق المؤتمر في ختام أعماله على بيان بشأن الحرب، حذر فيه من خطر حرب عالمية محدقة، وكشف أغراضها اللصوصية، ودعا الاشتراكيين من جميع البلدان إلى النضال النشيط ضد الحرب، وأوصاهم في حال اندلاعها باستغلال الأزمة الاقتصادية والسياسية الناجمة منها، والنضال في سبيل الثورة الاشتراكية.

أما أقطاب الأممية الثانية فقد تجاهلوا قرارات مؤتمري شتوتغارت عام 1907 وبال عام 1912 وبرووا الحرب التي تشنها حكومات بلدانهم بأنها (دفاع عن الوطن)، وأنها تشكل مقدمة لإنضاج وضع ثوري،  يؤمن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن هؤلاء ستروفة وكاوتسكي وبليخانوف وإكسلرود وكونوف ومناصروهم الذين اتخذوا موقفاً ليبرالياً انتهازياً، ومنافياً لقرار مؤتمر بال الذي أعلن أن هذه الحرب لا يمكن تبريرها بأية ذريعة بأنها تمت بصلة إلى مصلحة من مصالح الشعوب.

وقد تصدى لينين بقوة لتبريرات هؤلاء، ودحضها في موضوعاته التي نشرها في مجلة كومونيست في أيلول عام ،1915 تحت عنوان (إفلاس الأممية الثانية، ورأى أن ما طرحه كاوتسكي في كراسه (الدولة القومية) حول الميل الاقتصادي إلى نزع التسلح ن الة ألة لكون شتى الرساميل الوطنية متجمعة ومتشابكة في كل عالمي موحد، وإمكان التخفيف من حدة التناقضات الطبقية ضمن التطور الرأسمالي ما هو إلا إحلال للتمنيات الطيبة التافهة ضيقة الأفق بحل الوقائع العيانية أي تفاقم هذه التناقضات باضطراد وتسارع.) ص 30. ويضيف لينين في رده على مواعظ كاوتسكي:

(إن الحرب لم تجلب فقط لطبقة الرأسماليين الأرباح الفاحشية، وآفاق عمليات نهب جديدة (لتركيا والصين والشرق كله). ولكنها جلبت أيضاً مغانم سياسية: إذ شقت صفوف البروليتاريا وأفسدتها. ص 39.

واليوم، وفي الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 نسمع ممثلي الأحزاب الاشتراكية) المتماهية مع مصالح الرأسماليين الكبار في بلدانها الأوربية: فرنسا وإنكلترا وألمانيا، والمنخرطة بتبعية ندلة في تنفيذ اليساسات الليبرالية الجديدة للإمبريالية في واحدة من أخطر مراحلها العليا، تبرر الحرب وما تلاها من حروب، وتروج حديثاً لنظرية الفوضى الخلاقة، وما رافقها من عمليات احتلال وتدخل، ومن تأجيج لنزاعات مزمنة وافتعال لنزاعات جديدة، وتفكيك دول وتغيير أنظمة بالقوة (خلافاً لميثاق الأمم المتحدة)، وإعادة تشكيل مناطق بأكملها بما يتلاءم مع المصالح العليا والأمن القومي للدول الكبرى وللاحتكارات الإمبريالية.

والخطورة أن تجد الأطروحات الجديدة (لليساريين الجدد) وللمخدوعين بأطروحاتهم ووعودهم من تيارات صدقت نواياهم في (دعم  ثورات ربيع شعبية) تفضي إلى تغيرات جوهرية وتفتح الطريق أمام حلول لمشكلات وصراعات، من بينها الصراع العربي الإسرائيلي.

واللافت أن (يساريين سابقين) وممثلي تيارات (ديمقراطية ومدنية) (وثوريين جدداً) يرددون مقولات منظري الأمميات المتصالحة مع الليبرالية الجديدة، أو يصدقون الوعود والتصريحات الإعلامية المعسولة (بربيع برتقالي أو أسود) قادم، يفتح الطريق أمام (الديمقراطية والرفاه)، (فيحجّون) إلى العواصم التي يطلق المسؤولون فيها هذه التصريحات، (ليكتشفوا (الطريق) إلى (إعادة بناء دول مرسومة على الخرائط) لا تشبه ا لدول في أي شيء.

وما قدمه الماركسيون الثوريون، وما اكتشفوه من وقائع تسند حججهم النظرية منذ ثورة 1905 في روسيا، أو خلال مؤتمري شتوتغارت 1907 وبال 1912 وما عرضه لينين ورفاقه من مغالطات ومراوغات لمواعظ أولئك (الماركسيين المتصالحين مع رأسماليي بلدانهم)، والذين أفرغوا الماركسية من مضمونها، وأبطلوا فاعلية منهجها الديالكتيكي الذي يقلّب المسألة على مختلف وجوهها، ولا يكتفي بالنظر إليها من زاوية واحدة، بل يكشف تأثيرها على مصالح الشغيلة والوطن على المديين القريب والبعيد، وما كشفته ثورة أكتوبر عام 1917 من اتفاقيات ووثائق سرية لتقاسم المستعمرات وتركات الإمبراطوريات المنهارة، ومناطق النفوذ، تدحض كلها مزاعم الدعوات المفلسة (لأشباه الماركسيين واليساريين)، الذين لا هم لهم سوى تبرير الحروب وأعمال التدخل، أو (التبشير بنعم) الوعود الأطلسية، والترويج لمقولة (شرعنة إسقاط الأنظمة) لإزالة بؤر التوتر واسترداد حقوق الشعوب.

وفي وقت بلغت فيه أزمات منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية والعالم أشدها، وبلغ الخطر حد نسف بنية الدول وعلاقات الجوار البينية، وجرى الترويج لمقولات قبول ما تنصح به الدول المستقوية وراعية الحروب، تبدو المهمة أمام الأحزاب الشيوعية الجدية بالغة الصعوبة، فهي تتطلب تفنيد ذرائع السياسات الليبرالية الجديدة وأعمالها العدوانية المتوحشة، وتفنيد مزاعم (الكاوتسكيين الجدد) وأنصار (الأممية الصفراء) الداعية إلى (الثورة الفورية) أو إلى الاكتفاء بأعمال مشروعة تطمئن الرأسمالية العليا وتدفعها إلى نزع تسلحها، وتتطلب عملاً دؤوباً من أجل وحدة قوى اليسار، والتنسيق الواسع في كل خطوة مع النقابات العمالية والاتحادات الفلاحية والمهنية، والدعاية الصبورة لإزاحة الهلع الذي تنشره (الماكينات) العسكرية والإعلامية من نفوس الجماهير.

وإذا حققت البرجوازية الخانعة والمنافقة بعض النجاح في شق الحركة اليسارية، فهل ندعها تنجح في القضاء عليها كلياً؟!

العدد 1107 - 22/5/2024