النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية

(أنتم ملح الأرض، فإذا فسُد الملح، فبماذا يُملّح)

يحمل المثقفون ـ فوق إراداتهم ـ أمانةً ومسؤولية تجعلهم يبتعدون عن التزييف، والمداورة، والالتفاف على القضايا والمشكلات التي يعاني منها مجتمعهم، مسؤولية يفرضها امتلاكهم الوعي والمعرفة القادرة على تحليل المشكلات، والأزمات، ومحاولة وضع الحلول، إسهاماً وطنياً وإنسانياً، لا يسمح لهم بالنأي بأنفسهم عنه.

وإذا ما طرح موضوع النسيج الاجتماعي في سورية، لا بد من الاعتراف بتنوع هذا النسيج وتعدده، مما يعني أن الدولة السورية دولة تحتوي أقليات قومية وعرقية ومذهبية، ولكنها ليست مجتمع أقليات، فقد جاء على موقع وزارة الخارجية الأمريكية، أن نسبة العرب في سورية هي 90%، وتضم الـ 10% الباقية أقليات قومية، من أكراد، وشركس وأرمن، وآشوريين، وتركمان.

كما يمكن توزيع هذه النسب بين الأديان والطوائف والمذاهب.

وثمة عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية واقتصادية أسهمتْ بوجود هذا التنوع الفسيفسائي على هذه المساحة الجغرافية التي تسمى سورية منها:

أن أديان التوحيد الكبرى قد ظهرت في هذه الأرض ومنها انطلقت واتسع حضورها في الأرض التي تدعى سورية الكبرى.

تعرُّض منطقة الهلال الخصيب التي تشكل سورية الحالية جزءاً كبيراً منه، لعدد من الغزوات من قبل أقوام متعدد تركت بعض آثارها في هذه الأرض.

كما شكلت سورية، ملجأ لبعض القوميات التي عانت من الاضطهاد السياسي أو الديني أو الإثني، مما يؤكد أنها منطقة تسامح وتعايش حقيقيين.

كثيراً ما تم الحفاظ على الاختلافات الدينية والعشائرية والإثنية، نتيجة الولاء المحلي المكثف بسبب التكوين الجغرافي من جبال ووديان وبواد يصعب الوصول إليها، وتضمحل فيها فرص الاختلاط والتلاقح الثقافي والحضاري والعرقي.. وقد أسهم في ذلك ضعف سبل الاتصال ـ سابقاً ـ أو رغبة بعض المجموعات في عدم الخضوع لرقابة الدولة المركزية، والعيش دون قلق أو خوف.

وفي زمن الإمبراطورية العثمانية، كان المجتمع السوري مجزأ بشكل كبير إلى عدد من المجموعات المحلية العشائرية والإثنية والدينية المطالبة بالولاء المطلق، وقد تلامست هذه المجموعات من دون أن تختلط بعضها ببعض، وكان ينظر كل منها للآخر بعين الشك والريبة.

خلال القرن التاسع عشر بدأت التدخلات السياسية الغربية في شؤون الإمبراطورية العثمانية، بحجة حماية حقوق الأقليات مما أحدث تأثيراً سلبياً ضاراً بالعلاقات القائمة بين مكونات المجتمع السوري المتعددة.

أما في زمن الانتداب الفرنسي على سورية، فقد تم تحريض وتشجيع الولاءات الطائفية للحد من ظهور الأفكار القومية العربية، كما تم تشجيع ظاهرة الانفصالية بين الأقليات عملاً بسياسة فرّق تسد.

ولكن نمو الوعي السياسي أظهر الولاء الوطني، (الدين لله والوطن للجميع) والولاء القومي من خلال ربط سورية بمحيطها القومي العربي.. مما جعل من سورية بعد الاستقلال عام 1946 دولة وكياناً سياسياً تضعف فيه نسبياً الأمراض التي حاولت الدول التي تسلطت على هذه المنطقة تكريسها وتثبيتها في المجتمع السوري.

على الرغم من الدرجة الكبيرة من التجانس الثقافي، إلا أن سكان سورية الحاليين يتميزون بتنوع كبير في الأصول الإثنية والدينية، ومما لا يمكن إنكاره أن الولاءات الدينية والإقليمية والعشائرية قد لعبت دوراً في تاريخ سورية السياسي والاجتماعي والاقتصادي في القرن العشرين، إلا أن الآراء تختلف كثيراً حول مدى أهمية هذا الدور، خاصة بعد مجيء الأحزاب القومية العلمانية والاشتراكية التي حاولت إضعاف هذا الدور ومحوِه وتهميش فاعليته.

ولكن الأزمة الراهنة في سورية أظهرت ـ بعيداً عن التقية السياسية والاجتماعية ـ ظهور بعض النزاعات التي بدأت تظهر هنا أو هناك، وتهدد النسيج الاجتماعي الذي اعتقدناه متماسكاً إلى وقت قريب، فقد دخلت سورية في إطار ما يسمى بالحرب على الاحتياطي الاستراتيجي الذي يملكه المجتمع والدولة السوريان، الاحتياطي الرمزي من الوحدة الوطنية والتآلف الاجتماعي، أو ما يسمى بالنسيج الوطني، وصيغة العيش المشترك التي تفاهمت عليه مختلف مكونات المجتمع السوري.

وهذا ما يرتب على أبناء الشعب في سورية العمل بخطوات وطنية صادقة وفاعلة، لإعادة صياغة العلاقة بين مكوناته، وبناء علاقات تقوم على التسامح والاحترام والتعايش المشترك، والاحترام المتبادل، وتعزيز الحقوق الأساسية في دولة ديمقراطية وطنية تعددية مدنية وعلمانية، تتسع للجميع على أساس المواطنة والانتماء، وبناء فضاءات مشتركة تجمع جميع السوريين تحت مبدأ المواطنة الذي يقوم على أساسيين هما، الحقوق والواجبات المتساوية بين أبناء الوطن الواحد. دولة تكفل فيها الحقوق والواجبات المتساوية بين أبناء الوطن الواحد. دولة تكفل فيها الحقوق السياسية والثقافية والدينية لجميع أبنائها دون تمييز أو غبن.

جاء في دستور الجمهورية العربية الذي تم إقراره العام 2012 في المادة التاسعة (يكفل الدستور حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري. بجميع مكوناته وتعدد روافده، باعتباره تراثاً وطنياً يعزز الوحدة الوطنية في إطار وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية..).

كما جاء في المادة الثالثة والثلاثين منه ـ (المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل موطن ويمارسها وفق القانون، والمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، وحرية الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون)، مما يؤكد أن سورية هي الوطن المشترك غير المجزأ للسوريين كافة، من دون استثناء أو تمييز، دولة يسكنها شعب واحد موحد ـ يتكون من نسيج اجتماعي متنوع متآلف وما  ورد في دستور سورية الجديد، لا يتعارض مطلقاً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ينص في المادة (21) منه على أن:

1ـ لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده.

2ـ ولكل شخص الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد.

ولا يتعارض أيضاً مع المادة (27) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تنص على أنه: (لا يجوز في الدول التي فيها أقليات إثنية، أو دينية، أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم، وإقامة شعائره،أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع أعضاء جماعتهم).

وكل ذلك متحقق إلى مدى بعيد في سورية، ولكن الأزمة كشفت عن تخلخل حصل بسبب بعض التدخلات الدولية التي ترسم مواقفها من دون النظر الجدي لمصالح الشعب السوري ـ فتلك قضية اخلاقية لا تدخل بجدية في الحسابات السياسية ـ مما يحتم الوعي ونشر ثقافة التسامح والعيش المشترك وعد ذلك خياراً استراتيجياً لا مندوحة عنه، خشية تفكك علاقات المجتمع الراسخة التي قد تؤدي إلى تفكك الدولة وكيانها السياسي القائم. بعد تفتيت الوحدة الوطنية باستغلال بعض الاحتقانات القومية أو الدينية أو الطائفية، التي قد تتواجد في دوائر ثانوية مغلقة في  رحاب الوطن الواسع. فالهوية الأساسية للمجتمع هي الهوية الوطنية السورية التي ترعى الاختلاف وتعترف به، وتترك للخصوصية حقها في التعبير عن ذاتها وممارسة حقوقها  ضمن بوتقة الوحدة الوطنية بكل مكوناتها، المتعددة والمتنوعة والمتمايزة التي تضيف غنىً حضارياً للهوية السورية الوطنية.

إن الواجب الوطني يحتم على كل مواطن أن يثبت انتماءه الحقيقي للوطن، وأن يتبرأ من عقلية ما قبل الدولة الوطنية التي تحمل في ثناياها خطر تفتيت المجتمع وتهديد الوطن وتعريضه للاختراق والتدخل الخارجي، وتدمير الوحدة الوطنية ـ كنزنا الأثمن ـ فيه.

العدد 1105 - 01/5/2024