العدالة والعودة للمجتمع القوي المنصهر

لا يمكن أن يعالج أي مرض من دون المعرفة الدقيقة بكل عوارضه ومعرفة أسبابه لمنح العلاج المناسب، ولكن إعطاء المحرضات والأدوية الخاطئة قد تؤدي إلى القتل الفوري أو اللاحق للمريض، وهكذا في الأمراض الاقتصادية والاجتماعية وما جرى لبلدنا، فالعودة إلى جسم اجتماعي صلب متماسك قوي ومنيع ومقاوم لا يتحقق بالوهم والخيال ولا بالأقوال والتمني والتنظير وإنما بالأفعال المستندة على سياسات هادفة وبرامج واضحة تعالج الأمراض والأعراض التي نجمت عن انتهاج إجراءات مسيسة بعيدة كل البعد عن عمق السياسات المطلوبة البناءة وجذورها ومنتوجها، التي ناسبت الواقع وسارت به في الاتجاه الصحيح والسليم، وفتحت الأفق لتنمية متميزة مرتفعة ولبناء قوي صامد وصابر، وأعطت الحصانة والمناعة التامة، لو لم تقطع قطعها ويجري الالتفاف عليها بما يناقضها ويقوض إيجابيتها.

 إن اختيار مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي لم يأت من فراغ، وإنما يدل على عمق وفهم دقيق لما نجم عن السياسات المخططة المركزية من نتائج إيجابية ومن بنى ومواد وأموال يجب استثمارها الاستثمار الأمثل. ولكن اختيار العنوان لا يفيد ولا يخدم إن لم يطبق، أو إن غابت النية عن تطبيقه وكان حقاً يراد به باطل، فهو بمعناه العام يدل على التكامل القوي والتعاون شبه التام بين مختلف القوى الاجتماعية واستثمار اموالها بما يخدم التنمية ويجذب أموال السوريين، وإن اقتضى الأمر الاستثمارات الأجنبية الآمنة التي تعمق قوة الوطن وتحصن البلد. ولكن الذي حصل أن قوى بانت لاحقاً اختبأت وراء هذا العنوان لتصل إلى أهداف أبعد ما تكون عن الوطنية أو تقوية البنيان، وإنما حسب ما ظهر كان الهدف من جعل البلد والبعث يتبنى هذه الأهداف زعزعة الثقة به من محازبيه وأنصاره، لجعله يظهر حزب تنظير لا حزب أفعال، وبالتالي ابتعاد أنصاره وخلخلة البنى المختلفة وسلب مناعة المجتمع، مما يسهل شراء أنصار وجذبهم لهذه القوى يكونون وقود المشاريع القادمة ويتيح لها أن تسحب البساط لتشكل قوى ضاغطة لاحقاً بدعم وإيحاءات خارجية، وكذلك لضرب الاتجاه الاشتراكي الشيوعي والاتجاهات اليسارية عموماً، وللتفريغ التام للمجتمع وملئه بما يقوي هذه القوى ويضعف دور الدولة ومؤسساتها، وجعلها لخدمة اجندات فئة صغيرة بدلاً من قيادة الوطن وخدمته بأكمله، إن الانقلاب على هذا الشعار أدى إلى كوارث اجتماعية خطيرة (بطالة وفقر وعنوسة وهجرة داخلية وخلخلة أمن ومخدرات وضياع سياسي فكري وصراع شديد بين قوى همها الوطن وفقرائه وقوى مصالحها فوق الجميع). كان من ضمن الأدوات المستعملة في حربها أبواق سعت لإصدار قرارات هدفها إعادة النظر في ملكية المعامل وللأراضي التي وزعت للشعب بقانوني الإصلاح الزراعي والتأميم اللذين يعتبران من أهم الأدوات التي وسعت أفقياً الفئة الحاملة لأفكار العدالة الاجتماعية وقوة الدولة، وكانا أس الوصول لاستقرار سياسي واقتصادي ومجتمعي ونسيج مجتمعي متجانس تسوده طبقة صلبة راقية مثقفة ومؤطرة، وإن كان هناك بعض الثغرات في التطبيق. إن التقييم الصحيح لتجارب كهذه لا يمكن أن يتجاوز توقيت إصدارهما وظروف البلد وبناه المختلفة، ولا يمكن نسيان الآثار الايجابية التي نتجت عن تطبيقهما….

لذلك لم يكن مفاجئاً فظاعة البعض وهو يطالب السلطات بإعادة المعامل والأراضي لمن اتخذ هذان القراران بحقهما! فما هو مؤكد أن أسّ الفساد وحيتانه يريدون ذلك حتى تقطع الطريق على قرارات مشابهة تنال ما جمعه فسادهم من جهة، وزيادة القطيعة بين الشعب والأحزاب السياسية اليسارية، لجعل أجزاء منه أنصاراً لمشاريعهم بالمال والتحفيز، وخاصة أن هذه المطالبات ترافقت بسياسات اقتصادية تخدم البعض على حساب الجميع، وتضعف دور الدولة وتقوض ما وصلت إليه من تنمية، وتقضي على الطبقة الوسطى وتربط البلد بعلاقات مع بلدان عكس ما يتطلبه التيار الوطني، وهذا ما فُرض بالصدمة المضعضعة شبه القاتلة لرفع الدعم ومن ذلك رفع سعر المحروقات وتحرير التجارة الخارجية، وقتل القطاع العام والخاص، وتفسيد المجتمع وتفريغه سياسياً وفكرياً، ورفع معدلات التضخم، ورفع الضرائب والرسوم على الفقراء ومحاباة الأغنياء.

 هذه السياسات استمرت حتى في أحلك الظروف ولم يتنازل متبنوها عن تنفيذها علماً أن الغرب لا يستطيع أن يضغط او يقتل أو يدمر متعاوناً مع أدواته أكثر مما حصل، ولذلك فإن الدماء النقية والأرواح الطاهرة والأفكار العطرة تنادي بأعلى صوت النصر لقضيتهم التي حلّقوا من أجلها، قضية العدالة الاجتماعية، ووطنية القرارات وعدالتها، وإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى بالسعي للعدالة الاجتماعية، ومن المؤكد أنه لا الخصخصة ولا اللبرلة هما الأدوات التي توصلنا إلى ما يرضي الدماء وأصحابها ومن يهتمون بها، وكذلك البعد عن التنظير المترافق بتطبيقات جوفاء. فالتشاركية تطبيق مهم ونحتاج إليه، ولكن للتشاركية خصائص وغايات وأهدافاً وظروفاً إن لم تتوفر يصبح اسمها مصالحية شخصية، فالتشاركية للتصدي لما يحتاج إليه المجتمع ولما يزيد الطاقات ولما يطور ويقدم البلد، لا التشاركية لربح مقونن لأشخاص على حساب البلد والطاقات الانتاجية، كما حصل في الحاويات وبعض المعامل، ومشاركة القطاع الخاص بالتنمية لا تكون بقتل القطاع العام وتخسيره وإقصاء منتجاته لجعل البعض يغتني من استيراد مواد كان القطاع العام ينتجها. والمنافسة ضرورية، ولكنها لا تحصل في ظروف احتكار القلة أو قلة القلة وكيف باحتكار كهذا سنصل إلى منتجات مميزة ذات جودة وأسعار مراعية للجميع، والاستثمار الخارجي قد يكون ضرورياً، ولكن الاستثمار الآمن الذي لا يقوض القرار السيادي ولا ينصب فخاً مستقبلياً يكون ضمن أولويات احتياجات البلد وقوانينه لا القفز فوق القوانين…..

إن الدماء التي فاضت والأرواح المتعبة لم ولن تكون، كما يظن بعض الفاسدين، حماية لهم، أو أنهم انتصروا بها، ولكنها كانت من أجل قضية ووطن، هي المنارة للقادم الجميل لسورية القوية التي نريدها، دولة المؤسسات القوية التي تعيد الانضباطية لمجتمعنا الذي تسرب له الكثير من المستحاثات والطفيليات، والقوة والعقلانية بالتطبيق شرطان ضروريان من أجل الوصول إلى مؤسسات على أساس فصل السلطات (تشريعية أو تنفيذية أو قضائية) بما يعيد روح البناء والتطوير للمؤسسات الدينية والتعليمية، وملء الفراغ السياسي بأدوات وطنية فاعلة هادفة لا بقوى كرتونية مبرمجة سوداء، قوة الدولة ضرورة ملحة، وسيطرة الدولة بمؤسساتها هدف وغاية ووسيلة، وانتصار الدماء ينصر قضيتها هو أكبر دواء، والعودة لمجتمع منصهر صلب هو لب الاستمرار، والعودة القوية وتقويض المشاريع الشخصية الدموية يكون بقطع أوردتها.العدالة الاجتماعية يجب أن تكون العنوان العريض لكل السياسات والبرامج والخطط القادمة، فهي الدواء الشافي للصراع الطبقي الذي أخذ بعديه الأفقي والشاقولي وهذه العدالة لا يمكن أن تتحقق في ظل تغييب الدولة وتدخلها وسيطرتها، وكذلك في ظل عدم سيطرة القانون الذي يجعل الكل متساويين أمامه، وفي ظل المواطنة التي لا تفرق بين صغير وكبير وأبيض واسود إلا ضمن القانون الناظم لحريته الشخصية والوطنية، ومن دون إصلاح القطاع العام والسعي إلى تربيحه لا تخسيره، ودعم الزراعة وتحجيم التضخم وإعادة النظر بكل السياسات والعلاقات السابقة، كل ذلك يجب أن يكون ضمن بيئة سياسية حزبية فاعلة وواقعية وحقيقية.

العدد 1105 - 01/5/2024